إضاءة على الأوديسة السورية.. أنثولوجيا الأدب السوري في بيت النار
البعث الأسبوعية-رائد خليل
يقدّم الكاتب الأردني أحمد جرادات أوراقه على طبق من فضّة القول المجدي ببعده الوطني، ليضيء مرحلة مهمة استثنائية، فكان الشاهد والأمين في التقاط مفردات خاطبت الوعي والوجدان ولامست أحقية البوح في مضامين الصمود السوري الذي خلق معادلة تأسيسية في التاريخ الحديث، فاستدعى الذاكرة وترجمها بكل لغات المعرفة نحتاً سرمدياً بأزاميل لاتعرف سوى البقاء.. وجاءت الأعمال الأدبية التي ألَّفها كُتَّاب سوريون عايشوا الحرب العدوانية على سورية وكتبوا مؤلفاتهم في أتونها، فترة مفصلية في استنهاض القيم التي حاولت بعض الماكينات الإعلامية تغيير مواصفاتها وخطابها ولكن بقي مصطلح “العشرية الحالكة”، عنواناً توصيفياً أراده جرادات في مواجهة “الكومبرادور” الرث في المعركة الثقافية التي يخوضها الكتّاب السوريون الوطنيون والتقدميون ضد قوى العدوان الامبريالي -الصهيوني- الرجعي العربي الهمجي وشغّيِلتهم من جحافل الإرهابيين على سورية في مواجهة الفكر الظلامي التكفيري والنيوليبرالية المتوحشة.
ولادة الأوديسة.. ودور الانتليجيسيا (النخبة) في الحرب
في مقاربة مع الأوديسة الإغريقية الشهيرة، بكل دلالاتها وتقاطعاتها التي تروي رحلة العودة إلى الوطن التي قام بها اوديسيون منذ مغادرته طروادة.. وماكابده خلالها من أهوال وحروب على مدى عشر سنوات، مع البشر تارة ومع الآلهة تارة أخرى من أجل الوصول إلى هدفه ومبتغاه في العودة الى الوطن والعائلة، إذأدركأن تحقيق الهدف يحتاج إلى خوض مواجهات حاسمة.
من هنا جاءت فكرة الولادة، ليأخذنا الكاتب معه للنفخ على جمرة الموضوع الرئيس، ودور الانتليجيسيا في الحرب الثقافية من خلال طرح سؤال مصيري عنهم، هل هم قادة لشعوبهم أم أنهم بيادق في أيدي أعدائها؟ ويذهب الكاتب بنا في قراءة ساحة الثقافة التي تخاض فيها الحروب الحديثة في مواجهة جحافل الظلام بمختلف مسمياتها.
وتضطلع الكتائب الثقافية بمهمات رئيسية ثلاث: التصدي للعدو وفضحه، ثم تعبئة الشعب واستنهاضه، إضافة إلى بيان عدالة القضية وشرحها. وهنا دعوة إلى تفعيل دور الانتليجيسيا المتمثل في تكريس وإدامة إشغال مكان لائق للأمة في متن التاريخ خوفاً من التهميش وإبعاده.
ويطرح الكتاب أسئلة واسعة الطيف حول قيام بعض المثقفين بدورهم المنوط بهم في ظل تعويم الزمّارين والأبواق الدعائية او مايسمّى: مثقفون تحت الطلب.. الذين حملوا راية التزييف وخرجت بياناتهم مدججة بالأضاليل ومموهة بعناوين براقة وفضفاضة.
ويؤكد الدكتور محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتّاب العرب (سورية) في مقدمة الكتاب مشروعية السؤال الملح الذي أراده الكاتب جرادات عنواناً للأوديسة، فقد سأل حوراني عن إسهام بعضهم ضمن المشروع السياسي الإمبريالي في تقسيم المنطقة ودورهم المرسوم لاستهداف البنية الاجتماعية قبل كل شيء.. ثم الولوج إلى عمق الواقع الثقافي وتفتيته من خلال الترهيب والترغيب وسلاح التطرف الذين استخدموه وحركته غريزة الانتقام، فامتشقوا كل الأسلحة لتضييق الرؤية خدمة لمنطق الإلغاء العفن الممنهج الذي اتخذته الولايات المتحدة دستوراً فاجراً بكل ما تعنيه هذه الكلمة.
وفي ملامسة الواقع وعن المناقشات التي شغلت الأوساط الثقافية: المثاقفة، التناقض بين السياسي والثقافي، رسم شخصية الآخر العدو، والرأي الآخر. تبني الدكتورة ناديا خوست مقاربات مهمة في استلهام الكتّاب أحداث الحرب ومسرحة الحالة والدعوة إلى وضع المختار الناجح في النهج التربوي العام، كي يبقى أثره عميقاً في ذاكرة العامة ضمن متون الأمانة والتركيز على فتح بوابات الفن لما له من دور ريادي في استنهاض الروح (زمكانياً) استناداً إلى الرؤية الأخلاقية والفكرية بجذورها الممتدة في الواقع الحي.
محور جدل الثقافي والسياسي
يوجه الكاتب أصابع الاتهام إلى فئة ضالة وقفت مع الباطل، وأبدت مواقف معادية لسورية، وعلى أنغام الحقائق المضمرة، انتعشت في هذي الأوساط أطروحة “الثقافي ضد السياسي” وطفت على السطح “رطانة تثقيف السياسة لا تسييس الثقافة”.
إذ يشير الكاتب للنهج المتبع والغاية التي بررت كل الوسائل المتاحة باستعلاءٍ مصطنعٍ في محاولة تجميل وجه الثقافة القبيح بحسب ادعاءاتهم (النأي بالنفس) عن وحل السياسة.
إذن، فصل الثقافي عن السياسة في تاريخ الأمم، هو فصل تعسفي وبروباغندا ليبرالية.. وهذا الكلام الذي وصفه جرادات، يخلق رؤية واسعة بعدسة مكبرة يفضح فيها الخرافات المكارثية والترف الذي سقط بالتقادم بعد سقوط القناع عن الوجه الحقيقي للاستخبارات الامريكية ودورها في الحروب الثقافية التي تدار في بلدان عديدة.
ويطرح الكاتب سؤالاً جوهرياً عن البنية الذهنية وسيكولوجية المثقفين السوريين والعرب الذين يلهثون خلف تابعي (الزعيم الجبار لمنظمة الحرية الثقافية جوسلسون) المعاصرين وتابعي التابعين.
إذ بيّن أن هذا المدخل ينطوي على أسئلة أساسية لا مناص من اجتراح إجابات صادقة ودقيقة عنها. دون تسويغ لأمر أو رطانة فكرية وسياسية. وهي دعوة إلى إنشاء ملتقى فكري تقدمي يحمل على كاهله العبء الحضاري الثقيل الذي يستحق أن تنحني له أصلب الظهور للخروج بأقل الخسائر وإعادة المجرى إلى شريانه لضخ دم جديد يعيد رسم الآتي بكل أمانة.
متاريس الفلسفة والأدب
يستحضر الكاتب جرادات قصة مجموعة “فيلق المثقفين الأممي” الذين اتخذوا من جامعة مدريد متراساً في كلية الفلسفة والآداب.. وكانوا يهرعون في استراحة المحاربين إلى رفوف الأدب للتزود بالذخيرة الرومنسية من كتب بعض الشعراء.
ثم ينتقل الكاتب ليسلط الضوء على (انثولوجيا) نتاج بعض السوريين في الحرب المفروضة كجمرة الغضب تحت الرماد.. إذ تطرح فيه الدكتورة ناديا خوست تحليلاً فلسفياً عميقاً مفاده أن البذرة أو إحدى البذور، ربما تكون قد زرعت في رماد الغبن الذي يكمن كالجمرة بانتظار أن يشعله الغضب الأعمى.
إضافة إلى دور الليبراليين الجدد في سورية في خلق معادلة هجينة بعيدة عن النسيج الأساسي للبلد.
ويرى مالك صقور في رؤيته البعيدة المدى أن المشهد العربي يستدعي إثارة جملة من التساؤلات العميقة الدلالات ليسأل أين العقل؟ أين دوره؟ أين الحكمة والفلسفة؟ أين المثقف وماهو دوره؟
وهنا يضع يده على مكامن الألم وعلى الأزمة الأخلاقية التي يعزوها إلى الخلل البنيوي الذي أصاب المعرفة، وهذ ماجعل التكفير يتمدد.
أسماء أدبية عديدة حضرت في الأوديسة السورية على هيئة نوافذ ألغت كل النظريات أمام مشهدية الحرب ورحلة الحياة والموت.. إضافة إلى يوميات نقشوها في فصول شعرية مختارة وقفوا فيها مع الوطن في محنته التي بلغت العشرية الحالكة.. ولكنهم أعادوا بكبرياء صخب الحياة من جديد وبددوا رياح الظلام، ورفعوا صوت الحقيقة إلى أقاصي الممكن والأمكنة حيث يسكن الياسمين.