(الإفطار الأخير).. رحيل لا يغادر الروح!!
سلوى عباس
لأكثر من عشر سنوات والسوريون يعيشون عبثية الحرب التي أحدثت شرخاً كبيراً بين الناس، وغيّرت قناعات وأفكاراً حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، هذه الحرب التي حصدت الكثير من الأرواح وزرعت الخوف في القلوب، وجعلت السوريين يعيشون حالة القلق من “إفطار أخير” مع أحبة يغادرون منازلهم إلى أعمالهم، يغادرون تاركين أحلامهم وآمالهم بغدٍ يكون أجمل، لكن غدر الحرب يأخذهم من أهاليهم وأحبتهم لتبقى ذكرياتهم حاضرة في كل زاوية من زوايا البيت، وفي كل نبضة من نبضات الروح، تحكي عن تفاصيل حياتهم، فمع كل رحيل تضيق علينا الأمكنة، ويطبق الزمان خناقه على أعناقنا، فنعيش معه صراعاً بلا نهاية، وفجأة نرى أنفسنا مرميين على ضفاف عبثية الحياة، نتحدّى الموت بتمسّكنا بالحياة ونترجمها سلوكاً يجسّد ثقافة يتمثّلها الجميع، فنتماهى مع ما يحصل ونكتم غصّة وجعنا ونعضّ على جراحنا، أملاً بحياة تكون أقوى من كل مسبّبات الموت التي يزرعونها في حياتنا، ولعلّ مقولة فيلم “الإفطار الأخير” للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد “أسوأ أنواع الرحيل من رحل عنك ولم يرحل منك”، خير تعبير عن حالة عاشها كثيرون منا، وتعبّر أيضاً عن تجربة المخرج الذاتية مع الفقد من خلال فقده لزوجته مصمّمة الأزياء لاريسا عبد الحميد التي شاركته في كلّ أفلامه، وعانت ويلات الحرب وقسوة المرض كثيراً، وقد أهدى الفيلم لروحها، إذ كان آخر فيلم تشارك فيه.
مصير الزوجين رندة وسامي، بطلي الفيلم، يتشابه مع كثير من مصائر الأزواج والأسر السورية الذين طالتهم الحرب التي لم تكن هي الحدث الرئيسي في الفيلم، بل قصة الحب التي عاشها الزوجان، هذا الحب الذي يستمر حتى بعد الموت، لأن من طبيعة الإنسان أنه يتعايش مع الأشياء والحالات، وحتى مع الموت لأنه جزء أساسي من حياتنا، ولو أنه يؤثّر كثيراً، وكلّ شخص يتأثر بطريقة تخصّه دون غيره، وهذا ما تمثله حالة الزوج سامي الذي حاول أن يعيش الحياة كما هو مقدّر له، لكن طيف زوجته يبقى مرافقاً له في كل تفصيل من تفاصيل حياته.
وبعيداً عن ردود الفعل حول الفيلم والضجة التي أحدثتها وسائل التواصل الاجتماعي حول المشاهد الحميمية لبطلي الفيلم، لا يمكننا أن نتجاهل الجماهيرية الواسعة التي حققتها أفلام المخرج عبد الحميد، ولعلّ السبب يعود إلى أنه هو المؤلف والمخرج لأفلامه، إذ ينطلق من فكرة أنه الأقدر على التعبير عن نفسه وفهم ما يريد، وقد عبّر عن ذلك بقوله: “إنني أستمتع بالكتابة أكثر مما أستمتع بالإخراج”، وبهذا يصبح أهم ما يميّز تجربته هو انسجامه مع نفسه، وتركيزه على البعد الإنساني للموضوع الذي يتناوله بكل ما يحمله من مشاعر وعواطف، فالإنسان لديه محور كل قضية يطرحها في إطار البعد الوطني الذي يتقاطع مع أبعاد القضية كلها.
أما الإمتاع فهو المعبّر الرئيسي الذي يعبره المضمون ليتحوّل إلى شكل فني يتفاعل معه الجمهور، والمخرج عبد الحميد لا يجد صعوبة في الوصول إلى الناس لأنه يقدّم مقولته ببساطة وصدق ويخاطب فيهم تلقيهم بسلبياتهم وإيجابياتهم، حيث تنتمي أفلامه “لسينما الواقع” الذي يشكل منهلاً ثراً للموضوعات التي تتداخل مع أبعاد رمزية تحمل دلالات عميقة منسوجة برؤية فنية جميلة وصادقة، حيث البساطة أسلوب يعتمده عبد الحميد في معظم أفلامه، والصراع الذي نراه في أفلامه ليس صراعاً بين الشخصيات وإنما صراع الشخصيات مع الحياة!.