صورة البعث ومؤتمرات الحزب السنوية
د. عبد اللطيف عمران
انتهى بالأمس عقد المؤتمرات السنويّة للمؤسّسات الحزبيّة في المحافظات والجامعات على مستوى: فرقة – شعبة – فرع، وقد تابعت الوسائل الإعلاميّة في دار البعث هذه المؤتمرات بالحضور والمناقشة والتغطية الإعلاميّة بمصداقية ووضوح، ما يتطلّب منّا الحديث في الخلاصة والنتائج كرفاق وكجمهور قبل أن نكون أعضاء أصلاء أو إعلاميين، وهذا ما لا يمكن اختزاله في مقال، ولا سيّما أن قيادة الحزب لا بد أن تقوم باللازم في هذا المجال. وهذا ضرورة في واقع دخلت فيه الحياة الحزبيّة العربيّة ميدان الأزمة والضمور في أغلب مظاهرها التقليدية، مع عجز عن تجديد شعاراتها وأهدافها للتعامل مع الجديد في الحياة، وصارت خلف (الفكر) السياسي، وتحت (قوة) الدولة.
مضت هذه المؤتمرات بمختلف مستوياتها وقطاعاتها على الوجه الإيجابي والمتوقّع في هذه الظروف ولا سيّما من حيث وعي كوادر الحزب ومؤسساته للواقع الصعب الذي يعيشه الجميع على مستوى البنى التحتيّة والفوقيّة، ولم يغب عن هذه المؤتمرات استمرار الحرص على وحدتي الحزب التنظيمية والفكرية الّلتين تميّزتا بالرسوخ والصمود في مهب الرياح العاتية التي أضرّت بالمؤسّسات الوطنيّة الأخرى، ولم يكن الإجماع بالتصويت على المقترحات والتوصيات في نهاية كل مؤتمر صادراً عن حالة سكون أو لا مبالاة، بل عن وجهات نظر تعبّر عن انسجام ووعي وإدراك مع وجود مؤشّرات حقيقيّة وعديدة تعبّر عن الرغبة بواقع عام أفضل، وعن إمكانية وجود وسائل ممكن أن تكون أكثر جدوى، وذلك حسب قناعة كل رفيق وتصوّراته وقراءاته، وهذا مما لا يتشكّل معه قاسم مشترك أعظم في هذه الظروف.
وبعض ما ينطبق من توصيف على هذه المؤتمرات بكوادرها، ومؤسّساتها، والمداخلات التي طرحت خلالها، والنتائج المنتظرة، هو نفسه ما ينطبق على الحال العامة في الحزب أو على الحياة الحزبية وصداها في البعث، وفي المجتمع، وفي الدولة في وقت يجب الاعتراف فيه أن البعث مستهدف وأسباب الاستهداف تدعونا للفخر لا لليأس، وأن عدد الشهداء من كوادره ليس بالعشرات ولا بالمئات فقط، وأي شهداء هم الأبطال، شهداء القيم والمبادىء والأهداف العليا، وشهداؤنا كلهم كذلك. إضافة إلى أن هذه المطابقة في التوصيف تتصل بعمق التماهي التاريخي بين كوادر الحزب وجماهير الشعب ومصالح الوطن وقضايا الأمة، على الرغم مما يشهده اليوم هذا التماهي من شروخ يمكن ترميمها، بل واجب.
من المهم في سياق هذا التوصيف الذي هو مقدمة للخلاصة والنتائج أن نعترف أن صورة البعث اليوم لم تعد كذي قبل، ولهذا أسباب نستطيع البحث في مظاهرها وتجلّياتها ونتائجها بوضوح وأريحية، لكن هي ليست مجهولة على المهتمين، فقد اسُتهدفت هذه الصورة شرّ استهداف، وعلى الرغم من التاريخ النضالي للبعث ومن السرديّة الإيجابية البنّاءة لأدبياته المستمرة، إلا أن خصوم البدايات هم اليوم أنفسهم، بل أكثر ضراوة وشراسة، بل وحشية.
فقد نشأ البعث كنظرية وكممارسة في معمعان يقظة الفكر والعمل القوميين، وناضل ضد: التجزئة، والتخلّف، والاستعمار، والرجعية… وذيولها، وساعدته على الانتصار عوامل عديدة هو من أسهم من ترسيخها ودعمها منها: الوحدة الوطنية، والمشروع والفكر القوميين، وتقدم طرح الوحدة العربية والأمن القومي العربي… وكان روّاده دعاة، وكوادره ومؤسساته منابر وساحات عمل وإنجاز واعد، … إلخ، فهل الأمر اختلف اليوم؟.
لا. لم يختلف شيئ من حيث التحديات، ومن حيث وجود الكوادر والمؤسّسات والرؤية، أمّا من حيث الأمور المساعدة فقد انقلبت رأساً على عقب، فأين اليوم المشروع القومي العربي، والأمن القومي العربي، وطروحات الوحدة العربية، بل الوحدة الوطنية؟!. ما يرتّب على البعث الصامد الوحيد في الحياة الحزبية العربية تبعات جساماً لا سبيل أمامه إلا أن ينهض بها رغم استمرار محاولات (شيطنته) والإساءة إلى صورته في الشكل والمضمون، ويكفي أن ننظر إلى هذه الصورة في مراكز الأبحاث والدراسات الأكاديمية والاستخباراتية في الغرب الأطلسي وفي ذيوله التي تقتات على فتات موائده لنكون على يقين من أن خصوم البعث هم أعداؤنا التاريخيون بالماضي والحاضر الذين يجدّدون مشروعهم، فهل نجدد نحن اليوم مشروعنا؟!.
لا بدّ من هذا التجديد، فسؤال الهوية اليوم أكثر إشكالية، وكذلك الوحدة الوطنيّة والعربيّة، ومعه الحريّة والاشتراكيّة، وكذلك مصير الرسالة الخالدة وما يتصل بالأصالة والمعاصرة، ما يجعل الأجيال البعثيّة الطالعة اليوم إلى الحياة في مضطرب لا مفرّ من تجنيبها مخاطر الفجوات والمنزلقات فيه، وهي أجيال أصيلة وواعدة يُراهن عليها… فأمام البعث والبعثيين لاتزال الطريق طويلة ولا خوف من مشقّتها، لأن السؤال أضحى سؤال مصير ووجود، مقابل وجود (منظومة) إرهاب دولية في المنطقة والعالم ترعاها قوة عظمى كما قال الرفيق الأمين العام للحزب.
نعم ، هناك أسئلة ملحّة لا يمكن أن يُجاب عليها في هذه المؤتمرات لأنها مع مرور الزمن أضحت بمثابة تحديات عشرة: المؤسساتية والجماهيرية – النظرية والتطبيق – المجتمع السياسي والمجتمع الأهلي – الحزب والسلطة – الدولة والعرق والدين – النظام الرسمي والشارع العربي – الوظيفة الضبطيّة والأخلاقية للحزب العقائدي – الثقافة والإعلام – الإعداد والتربية والتعليم – الإنتاج والتنمية.
وفي هذا جميعه… هناك استراتيجيات تنطوي عليها أحاديث الرفيق الأمين العام للحزب السيد الرئيس بشّار الأسد، وإن كان بعضها قد صدر بصورة سرديات شفاهية تقريرية، إلا أنها خلاصة لإعادة نظر في واقع صعب، ما يجعل استلهامها والعودة إليها باستمرار من أسطع الحلول الواقعيّة الممكنة والواعدة.