فلسفة الجهل والعصفورية الافتراضية
غالية خوجة
ما أصعب أن ينتشر في الحياة جهل يتفلسف!..
معروفة الفلسفة بحكمتها واختزالها لتجارب البشرية عبْر العصور، والفلسفة ليست نظريات، بل، من المفترض أن تكون تطبيقات حياتية يومية تغني الحياة بالجديد في كافة مجالات الوعي الروحي، العقلي، الاجتماعي، النفسي، العلمي، المعلوماتي، الثقافي، الفني، الموسيقي، الصحي، الاقتصادي، لنكون في مرحلة متقدّمة من المفاهيم الفكرية المشّعة المبيدة للظلام الجواني للذات والآخر من أجل بناء حضارة متواصلة، مستمرة، متطورة، ومستدامة.
فهل نحن مجتمع يمارس هذه الظاهرة؟.
للمتأمل في إيقاعات البنية المجتمعية أن يكتشف كيف تعيش الغالبية بلا معلومات، وغالباً، الفئة العارفة بالمعلومات لا تطبّق تلك المعلومات في حياتها كنسيج طبيعي، بينما من يحيا بالمعلومات فتراهُ شبْهَ منطوٍ، يعاني من “التوحد الاجتماعي”، وكأنه في كوكب آخر غير الأرض، ريثما يعتاد على وجوده المحيط، فيتعلّم منه من خلال التقليد والمحاكاة والتحاور والاستيعاب والفهم، مما يساهم في التأسيس لأثر إيجابي بحاجة إلى فترة زمنية متحولة متناسبة طرداً مع ثقافة المجتمع الراغبة في التخلي عن فلسفة الجهل.
هل المشكلة تكمن في الانفصام بين ما يعلمه المرء وما يمارسه بعيداً عما يعلمه ويمارسه فردياً، عائلياً، مجتمعياً؟.
بكل تأكيد، صادفتم في حياتكم العديد من المثقفين والشعراء والمعلمين والتربويين والإعلاميين والإداريين وغيرهم، وهم يفصلون بين علمهم وثقافتهم النظرية وحياتهم التطبيقية، لدرجة أن أمثال هؤلاء يفقدونكم الثقة في هذه الفئة المحسوبة على الثقافة والتعليم والمعرفة، ويدفع البعض للقول: ما فائدة الشهادة التعليمية، وإصدارات الكتب، ومعارض الفن التشكيلي، ما لم تساعد الإنسان على الخروج من بوابات العتمة الفكرية والحياتية؟!.
لكن، لماذا بعضهم يمارس هذا الانفصام؟ هل لأنهم يظنون أن المجتمع غير واعٍ؟ أم أنه لن يتقبلهم؟ أم أنهم غير واثقين بشخصياتهم ومعلوماتهم؟ أم أنهم جعلوا هذه الأفكار بروازاً اجتماعياً؟.
لاحظت من خلال تجربتي أن المجتمع بحاجة لمن يطبّق المعلومات في حياته، فيتعلم منه بالمحاكاة والمشافهة والتقليد والمناقشة والحوار والاقتناع، ويتقبّله كشخص مختلف، ويرغب في حضوره ليقترب من أفكاره ومعلوماته ويحترمه كما هو، وبرأيي، هذا الشخص من أهم المؤثرين الاجتماعيين الواقعيين المطلوبين في حياتنا، على عكس مؤثري “السوشيل ميديا” الذين يسعون بغالبيتهم إلى تفريغ البعد الواعي من الإنسان ليزداد سلبية وتسطحاً وجهلاً يفلسف الجهل!.
وبلا شك، لا يندرج في “محبة الحكمة – الفلسفة” هذا الانصياع القطيعي وراء هذه “الصرعات” في الفضاء الافتراضي الذي تحوّل إلى “عصفورية افتراضية” تبثّ الشائعات والخرافات والأكاذيب والوهم والأفكار الظلامية، وإذا ما كانت لدينا لجان واقعية تحليلية لهذه الظاهرة، لاكتشفت أن فلسفة الجهل معادل موضوعي لضحالة المعرفة في مجتمع ما، وعملت على التنوير الفلسفي الحياتي العلمي والمعلوماتي والثقافي بكيفيات متناغمة ليرتفع المنسوب المعرفي لهذا المجتمع، فتزدهر المعرفة، وينتشر الضوء الداخلي ليبني الإنسان من الصميم القلبي والعقلي، فتضاء الحياة الفردية والاجتماعية، وتتكامل معطيات التطور بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، وتتماوج المحبة بحكمة تجعل من فلسفة الأخلاق والعلم والدين عالماً مدركاً للجزئية كما الكلية، مما يجعل الإنسان يدرك أنه الجزء والكلّ في آنٍ معاً من أجل حياة تنمو بفلسفة المعرفة ومحبة العلم وإنتاج المعرفة والعلم والثقافة والفنون والحكمة، أي إنتاج الحياة التي سنغادرها قريباً، ويواصلها أولادنا وأحفادنا، ودون أدنى ريب، نتمنى أن يواصلوها بحضارة مضاءة، مزدهرة، مؤسّسة لحياة مزدهرة بكل المحبة والجمال.