دور الإعلام في تزوير الأحداث وصناعة البروباغندا
البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي
لا يكاد يختلف اثنان على أن الحرب الإعلامية هي أشدّ الحروب ضراوة وتأثيراً في العصر الحديث، فبعد أن أصبح العالم قرية صغيرة بفعل العولمة لم تعُد هناك إمكانية للتعتيم على أيّ معلومة، حيث أصبح الفضاء الإعلامي فضاء واسعاً متاحاً للجميع، وبالتالي أصبحت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة وحتى شبكات التواصل الاجتماعي مصدراً أساسياً للمعلومة، سواء أكانت هذه المعلومة صحيحة أم خاطئة أو مضلّلة.
فقد ساهمت وسائل الإعلام بطريقة أو بأخرى في صنع أحداث سياسية مفصلية، وخاصة منذ بداية القرن الحالي، حيث اعتمد منظّرو ما تسمّى “الثورات الملوّنة” عليه بشكل أساسي في إحداث انقلابات سياسية في الدول التي كانت تنتمي إلى الاتحاد السوفييتي السابق، ومنها أوكرانيا التي تمكّن الغرب بقيادة حلف شمال الأطلسي “ناتو” من صناعة بروباغندا إعلامية خطيرة ضد ما يسمّيه الهيمنة الروسية على الحكم في تشرين الثاني عام 2004، حيث عمل الغرب من خلالها على صناعة فالق زلزالي كبير بين الشرق الأوكراني الناطق بالروسية والمؤيد للانضمام إليها، والغرب الذي يميل إلى الالتحاق بركب الدول الغربية بفعل العرق والمذهب، وانتهى الصراع عام 2014 بإقصاء الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش واستلام النازيين الجدد السلطة في أوكرانيا بدعم غربي معلن، وحملة إعلامية غير مسبوقة في تاريخ أوروبا، وقبلها الثورة الوردية في جورجيا التي أقصت الرئيس الأسبق إدوارد شفرنادزه وهو وزير خارجية الاتحاد السوفييتي سابقاً، من السلطة، وجاءت بميخائيل ساكاشفيلي الموالي للغرب.
وهذا السيناريو كان مقدّمة لما سيحدث فيما بعد تحت عنوان “الربيع العربي” الذي عمل الغرب من خلاله على إحداث ثورات في المنطقة العربية وصولاً إلى تعميم حالة من الفوضى، اعتقدت الولايات المتحدة وشركاؤها الغربيون أنها السبيل الأمثل لإعادة تشكيل المنطقة بما يتناسب مع أطماع هذه الدول، حيث ظهر بشكل واضح دور الإعلام في تزوير الأحداث وصناعة بروباغندا تساهم في إحداث التغيير المطلوب غربياً.
في جميع الأحوال لعبت وسائل الإعلام دوراً أساسياً في صناعة الأحداث في القرن الحالي وساهمت بالدرجة الأولى في إحداث التغيير المتوخى، وغالباً كان يسبق النصرُ الإعلامي الانتصار المطلوب على الأرض، وهذا ما أدّى إلى سقوط عدّة أنظمة سياسية في المنطقة بفعل التضليل الإعلامي والضخ الهائل الذي رافق هذه الأحداث.
ما يهمّنا من هذا الحديث أن الإعلام الغربي التابع في أغلبه لوكالات الاستخبارات الغربية، لم يتمكّن من ممارسة دوره التضليلي في الفضاء العالمي بوجود وسائل إعلام عالمية مهنية قادرة على كسب أكبر قدر من المتابعين على مستوى العالم بفعل الصدقية والمهارة التي تمتلكها في نقل الأحداث، وهذا ما حدث مع وسائل الإعلام الروسية، ومنهاRT وسبوتنيك وغيرها، فراحت الحكومات الغربية تشنّ هجمات شديدة على هذه الوسائل لإخراجها من دائرة القدرة على التأثير في الرأي العام العالمي، واصطنعت مجموعة من الأحداث لاتهام هذه الوسائل في التدخل في الأحداث السياسية في الدول الغربية.
وقد أصبح الوضع مع وسائل الإعلام الروسية في الغرب أكثر صعوبة في السنوات الأخيرة، حيث اعتمد البرلمان الأوروبي، في تشرين الثاني من عام 2016، قراراً ينصّ على الحاجة إلى مواجهة وسائل الإعلام الروسية، مع تسمية “سبوتنيك” وRT “تهديداتٍ رئيسية” في الوثيقة. وذلك في الوقت الذي اتهم فيه عدد من السياسيين الغربيين، بمن فيهم أعضاء بمجلس الشيوخ والكونغرس الأمريكي، وكذلك الرئيس الفرنسي “سبوتنيك” وRT بالتدخل في سير عملية الانتخابات بالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، دون تقديم أي دليل على ذلك.
هذا الهجوم الغربي الذي اشتدّت ضراوته في الآونة الأخيرة، وخاصة على خلفية العملية العسكرية الروسية الخاصة لحماية سكان دونباس من بطش النازيين الجدد في أوكرانيا، دفع السياسيين الروس إلى الردّ مباشرة والدفاع عن وسائل الإعلام الروسية التي يظهر أنها استطاعت من خلال مهنيتها العالية أن تجبر المتلقي الغربي على متابعة أخبارها وتقاريرها حول مجريات الأحداث، وذلك بعد أن تأكد هذا المتلقي أن وسائل الإعلام الغربية تمارس التضليل في هذا الأمر تبعاً لحاجة السياسيين الغربيين في شيطنة روسيا وتعميم مفهوم “روسوفوبيا” على الساحة الدولية، حيث أعلن السفير الروسي لدى واشنطن، أناتولي أنطونوف، أن الاستخبارات الأمريكية تحاول إقناع العاملين في وسائل الإعلام الروسية بالتعاون.
وجاء في بيان صدر عن السفارة الروسية في الولايات المتحدة ونُشر في صفحتها على “التلغرام”: “يتعرّض الصحفيون الروس العاملون في الولايات المتحدة للمضايقة. إنهم يواجهون حظراً مباشراً للبث في الأراضي الأمريكية. ولديهم وصول محدود إلى الفعاليات الرسمية، كما أن عملية الحصول على تأشيرات العمل معقدة، ويتم تجميد الحسابات المصرفية، ويحاول موظفو الاستخبارات إقناعهم بالتعاون”.
فهذا الحصار الإعلامي للمتحدّثين باسم روسيا هو جزء من محاولات أمريكية عديدة لمنع وسائل الإعلام الروسية من إبلاغ المواطنين الأمريكيين العاديين بموقف موسكو من أهم مسائل السياسة الدولية، الأمر الذي ترفضه وسائل الإعلام المحلية الموجّهة استخباراتياً بشكل قاطع مع استثناءات نادرة كـ”دعاية خبيثة”، والسلطات الأمريكية تحظر نشر مثل هذه المعلومات حتى على أساس تجاري.
وقد تحدّثت الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، سابقاً حول مضايقات عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية للصحفيين الروس، حيث حاولوا إقناع رئيس مكتب صحفي تابع لإحدى وسائل الإعلام بالتعاون، بينما تواصل الولايات المتحدة فرض المزيد من القيود على الصحفيين بهدف تخويفهم ودفعهم إلى المغادرة.
كذلك الأمر بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي الذي يمارس نوعاً من الاضطهاد للصحفيين ووسائل الإعلام الروسية، الأمر الذي يمثّل دليلاً على ازدواجية المعايير، حيث تقوم أوروبا بإخلاء الفضاء الإعلامي الغربي من أيّ شكل من أشكال المعارضة وعلامات حرية التعبير.
وقد أكد قادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، عشية اليوم الأول من قمة الاتحاد الأخيرة هذا التوجّه، حيث اتفقوا، من بين ما اتفقوا عليه، على حظر بث 3 قنوات تلفزيونية روسية في الاتحاد الأوروبي.
وفي الإطار ذاته، جاء فرض لاتفيا حظراً على بث جميع القنوات التلفزيونية الروسية، مدّعية أن وسائل الإعلام الروسية “تهدّد سلامة أراضي دولة أخرى واستقلالها” وبالتالي لا يجوز لها العمل في لاتفيا، ورابطةً إنهاء الحظر بانتهاء العملية العسكرية الخاصة، التي تنفذها روسيا في أوكرانيا.
ومما يدلّ على أن هذا الأداء هو أداء عام لدى الحكومات الغربية، ما جاء على لسان السفير الروسي لدى روما، سيرغي رازوف، الذي أدان التصريحات غير المقبولة للقيادة الإيطالية تجاه روسيا، مشدّداً على أن الخط الدعائي الذي يسود الإعلام الإيطالي يمكن اعتباره غير ودّي، وذلك رغم المساهمة الكبيرة لروسيا في التصدّي لوباء كورونا على الأراضي الإيطالية عام 2020.
وكانت وزارة الخارجية الروسية قد نشرت مطلع حزيران الجاري تقريراً بعنوان “انتهاكات حقوق الصحفيين والمواطنين الروس في الدول الأجنبية”، أشار إلى حالات الاعتداء والتمييز ضد المواطنين الروس في إيطاليا، والحملة ضد الثقافة الروسية وممثليها، كما سلط الضوء على النهج المتحيّز الذي تتبعه وسائل الإعلام الإيطالية عند تغطية الأزمة في أوكرانيا.
إذن، هناك جهد غربي واضح وممنهج للتعتيم على ما تنقله وسائل الإعلام الروسية حول حقيقة ما يجري على أرض أوكرانيا أوّلاً، وحول طبيعة الدور الذي تمارسه وسائل إعلام الدول الغربية في سبيل تعميم ظاهرة “روسوفوبيا” على الساحة الدولية، وهذا بالضبط هو السبب الذي يدفع الساسة الغربيين إلى التركيز على حجب الإعلام الروسي عن الفضاء العالمي، لأن الانتصار في المعركة الجارية بين روسيا والغرب حول حتمية نشوء نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب تساهم فيه وسائل الإعلام بشكل كبير في توضيح الوجهة التي يسير العالم نحوها، والمنتصر في هذه المعركة هو مَن سيحدّد طبيعة العالم المقبل.