مجلة البعث الأسبوعية

غياب الهوية هو العنوان الأكثر دقة للاقتصاد السوري في المرحلة الراهنة  ريادة القطاع العام والصناعات الزراعية التصديرية والمشروعات الصغيرة أساس الانطلاق للمرحلة المقبلة

البعث الأسبوعية – غسان فطوم

أحاديث كثيرة تدور اليوم في الشارع السوري على اختلاف مستوياته حول وضع اقتصادنا في المرحلة الراهنة، وما سيكون عليه في المرحلة القادمة، وذلك على خلفية الظروف الصعبة التي يعيشها البلد، والتي تحتاج لجهود كبيرة لإدارة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، وخاصة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية التي كان لها تأثير ليس على اقتصادنا فحسب وإنما على كل اقتصاديات العالم، ولكن يبقى تأثيرها أقوى على اقتصادنا المنهك بعد أكثر من عشر سنوات حرب تعرض خلالها للتدمير للبنى التحتية والبنى الإنتاجية في القطاعين الزراعي والصناعي على وجه الخصوص، لتأتي جائحة كورونا لتزيد الطين بلة، وتأثير موجة الجفاف، عدا عن الفساد الذي ينخر مفاصل المؤسسات! والخطير في الأمر أن العالم بأكمله قادم على أزمة غذائية ستسبب الكوارث التي لن ينجو منها حتى الدول الغنية، فكيف بسورية؟!

 

زمن البحبوحة!

هو واقع اقتصادي مؤلم بلا شك، مقارنة بزمن البحبوحة الاقتصادية التي كنا نعيشها، فسورية كانت، قبل العام 2011، تأكل مما تنتج وتلبس وتتداوى مما تصنع، حيث كانت تنتج أكثر من 85% من الأغذية والأدوية والألبسة والأحذية، والفائض كان يُصدر إلى أكثر من 55 دولة في العالم، وكان الإنتاج النفطي في اليوم يتجاوز الـ 400 ألف برميل في الحقول النفطية الموجودة في المنطقة الشرقية وبادية تدمر، كما كنّا ننتج بحدود 6 مليون طن من الحبوب، وكانت سورية من البلدان الخمس الأولى بإنتاج القطن المطلوب عالمياُ نظراً لجودته، عدا عن الثروة الحيوانية وتربية الدواجن وكلها مجتمعة كانت عوامل داعمة للاقتصاد حافظت على استقراره بشكل ملحوظ وجعلته من أكثر الاقتصاديات نمواً في تلك الحقبة، أما اليوم وبحسب وزارة الاقتصاد فإن سورية تستورد “من القمح شهريا بالعملة الصعبة أكثر من 180 ألف طن، أما استيراد النفط فيكلف سنويا أكثر من مليارين ونصف المليار يورو”.

 

سؤال الشارع

في ظل هذا المشهد الضبابي يتساءل الشارع السوري: هل الحكومة قادرة على إعادة عجلة الإنتاج الزراعي والصناعي واستثمار الموارد المتاحة حالياً والانتقال من مرحلة حلول “تمشاية الحال” إلى حلول أكثر استدامة بما يؤمن متطلبات التنمية في المرحلة القادمة المفتوحة على كل الاحتمالات؟

بحسب وزير الاقتصاد محمد سامر خليل فإن الحكومة لديها “خطة استباقية تستهدف وضع سيناريوهات أساسية للتعامل مع الأزمات الظاهرة حاليا”، ولكن ماذا لو طال أمد الأزمات واستمر نزيف الموارد المتاحة على قلتها، هل نبقى مكتوفي الأيدي بانتظار الفرج من الخارج؟!

بالتأكيد ليس بخافٍ على أصحاب القرار أن حوامل اقتصادنا لا تقوى على حمل نفسها، ولو على عكاز، نتيجة تآكلها المستمر، ورغم ذلك بدا البعض من الباحثين والخبراء في الاقتصاد متفائلين، ولكن بشرط تحسين استثمار وإدارة الطاقات المتاحة، وفي مقدمتها زيادة الإنتاج الزراعي من خلال استثمار كل شبر من الأراضي الزراعية وتقديم كل الدعم للمزارعين وتشجيعهم على الزراعة، في حين كان هناك من حذّر من أن العام القادم سيكون أكثر سوءاً إذا بقينا نجتر نفس أسلوب وطريقة معالجة الأزمات.

هو تحذير خطير يجب أن يؤخذ على محمل الجد، من خلال الاستنفار على كل الجبهات بحثاً عن الحلول الشافية لمرض اقتصادنا، لعل وعسى نعثر على الجراح الماهر الذي يستأصل ورم التضخم المخيف.

 

تخبط في الرؤى!

لا شك أن الاقتصاد السوري، بفعل تبعات الحرب والتدمير الممنهج واستمرار العقوبات الاقتصادية الجائرة فقد ثلثي مقدراته الاقتصادية، حيث انخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة تتجاوز عمليا الـ 70%، وذلك بحسب الدكتور حسن حزوري أستاذ الاقتصاد بجامعة حلب، موضحاً أن انهيار اقتصادنا ترافق مع تخبط في الرؤى الاقتصادية وعدم وجود إستراتيجية واضحة، لتحديد هوية الاقتصاد السوري، سواء أكان ذلك قبل الحرب أم خلالها؟ وتجلى ذلك من خلال عدم تناغم السياسات المالية والنقدية والاقتصادية والتي أدت إلى نتائج كارثية، تمثلت بالتفريط بالاحتياطي النقدي من القطع الأجنبي، وفي عدم القدرة في السيطرة على سعر الصرف وعلى التضخم وارتفاع الأسعار التي أدت إلى انخفاض القوة الشرائية للمواطنين وخاصة ذوي الدخل المحدود، بالإضافة إلى زيادة معدلات البطالة بشكل كبير. ولذلك ونتيجة ندرة الموارد والحاجة لتأمين قيام الدولة بواجباتها، لجأت الحكومة إلى مبدأ تفضيل الجباية الضريبية على الرعاية للإنتاج، في ظل تهرب ضريبي كبير من كبار المكلفين، مما أدى إلى نتائج سلبية على الفعاليات الاقتصادية بمختلف أشكالها.

ويوضح الدكتور حزوري أن عدم وضوح الرؤية والإستراتيجية الواضحة في إدارة الملف الاقتصادي، نتيجة ظروف موضوعية حيناً وغير موضوعية أحياناً، وفي ظل عدم توزيع عادل للثروة والدخل القومي، جعل من غالبية السوريين تحت خط الفقر، بل الفقر المدقع، وأدى لانقسام المجتمع إلى طبقتين، طبقة فقيرة جداَ أو معدمة لا تملك أدنى متطلبات الحياة الكريمة، وطبقة غنية جدا، تملك رأس المال، أثرت ونمت بشكل كبير خلال الحرب، ومتوفر لها كل شيء من متطلبات الحياة والبذخ والاستهلاك التفاخري والتبذيري والاستفزازي، بشكل مشروع وغير مشروع، وبسببها تحول الاقتصاد السوري، نتيجة هيمنتها من اقتصاد منتج إلى اقتصاد ريعي يعتمد بشكل كبير على اقتصاد الخدمات، بدل اقتصاد الإنتاج، فعشرات المشاريع الاقتصادية تم إغلاقها لصالح المستوردين.

 

كيف نخرج من المطب؟

ويرى الدكتور حسن أن خروج اقتصادنا من أزمته يتم من خلال تحديد هوية تنموية له تقوم على استثمار موارده بفعالية وكفاءة، انطلاقاً من الاعتماد على الذات أولاً، ومن خلال تطوير الإنتاج ورفع مستوى معيشة الفرد، وخلق فرص العمل لتحقيق النمو الاقتصادي وصولاً للتنمية الشاملة المتوازنة والمستدامة ثانيا، موضحاً أن النهج التنموي هو الأكثر احتياجاً عبر برامج واضحة تعتمد على التعاون بين كافة قطاعات البلد لاستثمار الموارد والإمكانات المتاحة محلياً وجذب المهاجرين من الكفاءات البشرية والمهنية ومن رجال الأعمال، والعمل على التطبيق الصحيح للمشاركة والتشاركية بين العام والخاص في كافة المجالات، من خلال برامج واضحة وقيادة حكومية صريحة هادفة لأكبر عدالة ممكنة في ظل قوانين صارمة وواضحة تطبق على الجميع بدون استثناءات، فلا أحد فوق القانون، مترافقة مع مراقبة ومتابعة ومحاسبة ومراجعة.

 

إعادة توجيه البوصلة

وبيّن أستاذ الاقتصاد بجامعة حلب أن الحرب الروسية الأوكرانية، وتداعياتها، وعدم القدرة على التنبؤ بتاريخ انتهائها تفرض علينا إعادة توجيه البوصلة بالأفعال وليس بالأقوال، لقطاعات الاقتصاد الحقيقي ولاسيما القطاع الزراعي ثم القطاع الصناعي، والتركيز على الأمن الغذائي من خلال المحاصيل الإستراتيجية كالقمح والذرة والشوندر السكري للوصول للاكتفاء الذاتي، ومن ثم تحديد أولويات التنمية في القطاعات الأخرى، وكيفية الاستثمار الأمثل للموارد، بعيداً عن الهدر والفساد، وإعادة النظر بالسياستين النقدية والمالية لتكونا متكاملتين وليس متنافرتين، بالاعتماد على الأدوات والأساليب الاقتصادية وليس الإجراءات الأمنية، كما حصل في موضوع سعر الصرف وإجراءات تجفيف السيولة التي أضرت بالاقتصاد ككل، متسائلاً: لو أخذنا على سبيل المثال، التوصية الأخيرة للجنة الاقتصادية والتي وافق عليها رئيس الحكومة، بالسماح بإعادة تجميع السيارات السياحية العادية والكهربائية على أن تكون مصادر التمويل خارجية، ما هي القيمة المضافة التي سيجنيها الاقتصاد السوري؟ أيهما أهم أن نجمع سيارات سياحية قيمتها المضافة ضعيفة، أم نجمع باصات تحل لنا أزمة النقل الداخلي، وسيارات شاحنة متوسطة لنقل محاصيل الإنتاج الزراعي والصناعي، وجرارات أو آلات زراعية تساهم تنمية الإنتاج الزراعي؟!

 

إعادة القيادة

الدكتور قاسم أبو دست أستاذ الاقتصاد الدولي بكلية العلوم السياسية بجامعة دمشق يرى أن أول خطوة لإعادة تحديد هوية الاقتصاد السوري تكمن في تحسين مستوى معيشة المواطن وفق عدة أمور أهمها: إعادة القيادة للقطاع العام الذي بني بأيدي السوريين وأثبت حضوره وصموده رغم ما كان يعانيه من مشكلات زادت وطفت على السطح خلال سنوات الحرب، بالإضافة إلى الاعتماد بشكل أساسي على الإنتاج الزراعي والصناعات الزراعية التصديرية، والاهتمام بالمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر لأنها تعد رافع التنمية خلال مرحلة إعادة الإعمار، ودعم القوة الشرائية للمواطن من خلال تحسين دخله في ظل الوضع الاقتصادي الحالي، مطالباً بالاعتماد على خطط قصيرة الأجل لتأمين مستلزمات الصمود الاقتصادي في وجه العقوبات.

وكون الهوية الاقتصادية تلعب دوراً مهماً في تحديد توجهات الدولة لمختلف الأنشطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، دعا أبو دست لتحديد التسمية الحقيقية للاقتصاد السوري بهدف رسم السياسات الاقتصادية في المرحلة المقبلة التي تقوم على استثمار الموارد بفعالية وكفاءة تحقق النمو الاقتصادي المطلوب، ومن ثم العمل على التشبيك اقتصاديا بين كافة القطاعات العام والخاص والمشترك والتعاوني سواء كان ذلك محليا أو حتى عالميا مع الأصدقاء لمواجهة العقوبات التحديات الكبيرة التي برزت مع أول طلقة بالحرب الأوكرانية.

 

غياب الهوية

فيما يرى الدكتور المهندس الزراعي علي سلطانة أن غياب الهوية هو العنوان الأكثر دقة للاقتصاد السوري بعد أكثر من 11 عاماً على الحرب، والسبب هو عجز الفريق الاقتصادي عن إيجاد الحلول أو وضع خطة للخروج من هذا الانهيار والتضخم وفق الإمكانيات والموارد المتاحة، ويوضح “سلطانة” أن غياب الموارد وخاصة موارد الطاقة وتراجع الزراعات كزراعة القمح وسيطرة الاحتلال الأمريكي وتوابعه في المنطقة الشرقية على المساحات المزروعة منه واستمرار العقوبات الاقتصادية زاد الأمور تعقيداً وأوصل اقتصادنا إلى هذا الواقع الصعب، والحل يكون في اعتماد الاقتصاد الإنتاجي والابتعاد عن الاقتصاد الريعي، وتوفير النظم المالية والقانونية الداعمة له عن طريق العودة إلى التخطيط المركزي الموجه لتأمين الأمن الغذائي والاجتماعي وقيمة مضافة تساهم في رفع الناتج القومي وهذا يعتمد بشكل أساسي على دعم الزراعة والصناعة بشكل منظم وضمن برنامج زمني محدد، لافتاً إلى ضرورة دعم الاقتصاد المعرفي لبناء منظومة اقتصادية رقمية، داعياً إلى دعم التعليم ومدخلاته عبر المحافظة على الخبرات الوطنية وحمايتها ودعمها قبل أن تهاجر.

 

تغيير السياسة الزراعية

ورغم المعاناة والصعوبات لكن سورية لا تزال تملك الكثير من المقومات التي تجعلها تنطلق من جديد – حسب الدكتور سلطانة – داعياً إلى سن قوانين مصرفية ومالية تلاءم توجهاتنا في الاعتماد على الاقتصاد الإنتاجي، مشدداً على تغيير السياسة الزراعية الحالية عبر وضع سياسة مركزية لتحقيق الأمن الغذائي الاستراتيجي والعمل فوراً على توفير مستلزمات الإنتاج الزراعي أولا والصناعي ثانياً، خاصة وأن الحرب في أوكرانيا جعلت العالم أمام أزمة غذاء حقيقة وتحديات جديدة كان اقتصادنا الهش من أكثر الاقتصاديات تأثراً فيها.

 

الخطوة الأهم

من وجهة نظر أخرى يرى الخبير الإداري عبد الرحمن تيشوري أن الخطوة الأهم في إنعاش اقتصادنا المرهق تكمن في إعطاء الأولوية لبرنامج الإصلاح الإداري، مع الدعم الكبير للمشروعات الصغيرة وزيادة الرواتب بنسب كبيرة لتعود لليرة قوتها الشرائية بما يوازي التضخم الجامح الكبير.

وبرأي تيشوري أن الخلل الإداري على مستوى أجهزة الإدارة العامة حال دون تحقيق الطموحات الاقتصادية والاجتماعية المستهدفة، وذلك من خلال عدم قدرة أجهزة الإدارة العامة على إعداد وتنفيذ الخطط الاقتصادية بشكل يتماشى مع متطلبات العقلانية الاقتصادية والترشيد الإداري، رغم أن الطاقات والإمكانات المتاحة مناسبة لتحقيق نتائج أفضل بكثير على صعيد الأداء الاقتصادي، وبمعنى أدق تدل المؤشرات الاقتصادية الحالية على عجز الحكومة عن إدارة موارد المجتمع بالكفاءة المنشودة، وللخروج من هذا النفق المظلم بحسب تيشوري لا بد من حسم خيار الإصلاح ومكافحة الفساد، وتغيير كل ميكانيزمات أو إستراتيجيات العمل الحالي من خلال تشكيل فريق عمل قائم على أصحاب الخبرات والكفاءات بعيداً عن المحسوبيات، فبناء اقتصاد قوي يحتاج لإدارة مبدعة وإرادة قوية تتخذ قراراتها وترسم خططها وفق معطيات وأرقام صحيحة يمكن أن نبني عليها البرامج التنموية الناجحة.

ويبقى أن نقول أن سفينة اقتصادنا لا يمكن أن تبحر وسط بحر متلاطم الأمواج، طالما الرؤية ضبابية، لذا نحن بحاجة لمنظومة إدارية واقتصادية خبيرة في تطويق الأزمات وضبط إيقاعها للسيطرة عليها، فرغم كل الظروف لكن هناك أمل، هناك فرصة ليشفى اقتصادنا من أمراضه ويقف على رجليه عندما نحسن استثمار ما لدينا من موارد زراعية وصناعية مع تحسين مستمر لمستوى المعيشة ومحاربة الفساد الإداري والمالي وصولاً لبناء قاعدة تنموية متينة طويلة الأمد تحقق الاكتفاء الذاتي الذي كنّا ننعم فيه سابقاً.