قادة الرأي.. الحاضر الغائب في سياساتنا الإعلامية
البعث الأسبوعية- رغد خضور
كان لنتائج الانتخابات الأمريكية عام 1940، التي فاز فيها فرانكلين روزفيلت، أثراً كبيراً في تغيير نظرة الباحثين حول تأثيرات وسائل الإعلام المطلقة، ليتحول الحديث بعد ذلك إلى وجود حلقة وسيطة في العملية الاتصالية أكثر تأثيراً بالجمهور من مصادر الاتصال التقليدية، حيث أصبح انتقال المعلومات يتم عبر وسطاء مؤثرين وفاعلين في المجتمع أطلق عليهم اسم “قادة الرأي”، يعملون على تمرير رسائل وسائل الإعلام إلى الجمهور مع إضفاء وجهة نظرهم وتحليلهم الخاص لها.
وانطلاقاً من ذلك أصبحت عملية نشر الأفكار والمبادئ تعتمد على قادة الرأي، حيث تستقطب وسائل الإعلام أشخاصاً يتمتعون بقيمة كبيرة لدى الناس ويتقبلون أحكامهم، لإقناع الجماهير بالأفكار التي تبثها في سبيل اتخاذ المواقف التي تخدم مصالحها، ما يسهم في تكوين رأي عام حول القضايا التي تطرحها.
ومع تطور الفعل الاتصالي والأساليب المتبعة في إيصال الرسائل الإعلامية، وظهور شبكات التواصل الاجتماعي، بما تملكه من ميزات وأدوات قدمتها لقادة الرأي التقليديين تمكن قادة الرأي من ممارسة دورهم في القيادة للوصول إلى متابعيهم بشكل أسرع وتحقيق انتشار أوسع واتصال أكثر فعالية، ما أدى إلى تولّد نوع جديد من قيادة الرأي العام، حيث انتقل التواصل الجماهيري إلى فضاءات الشبكات الاجتماعية التي أصبحت منصة لعرض القضايا وإدارة النقاشات والجدل حولها. وقد أحرز الإعلام الرقمي شعبية واسعة لما يملكه من جمهور متعطش للمحتوى، وتفوق في صناعته على العديد من المؤسسات الإعلامية فيما يعرف بظاهرة المؤثرين اليوم.
هذا الأمر تنبهت له وسائل الإعلام على اختلافها، واستغلت إمكانيات تلك المنصات لزيادة التأثير على الجماهير من خلال قادة الرأي أو المؤثرين للسيطرة على الرأي العام في كافة المجتمعات، إلا أن وسائل إعلامنا لا تزال متأخرة في هذا المجال، إذ لم تستطع أن تقدم أي شخصية كقائد رأي، على الرغم من كثرة من يظهر عبرها من سياسيين واقتصاديين وتربويين وصحافيين وغيرهم، أو أن تحول أي حدث إلى قضية رأي عام تواجه به ما تبثه الأطراف الأخرى من رسائل ومعلومات مغلوطة أثرت على مر السنوات في مجتمعنا.
ولمن يقول إن هناك من كتب وصرح وأثار الرأي العام حول بعض القضايا، نقول إن ما حُرر ونُشر وصدر من تصريحات لا يعدو كونه في إطار الشأن العام الذي يهم الناس في معيشتهم، في حين أن القضايا التي تمس الناس في معتقداتهم وآرائهم ومواقفهم كانت بعيدة عن طروحاتهم وكتاباتهم، وحتى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لم يخرج عن هذا السياق، حيث فشل أولئك المؤثرين في تحويل العديد من القضايا المصيرية إلى قضية رأي عام.
والأدلة على ما نقول كثيرة، كقضية المياه في الحسكة، والعدوان الإسرائيلي على مرفأ اللاذقية واستهداف الحاويات التي تحوي مواد غذائية، ولعل أحدث ما يمكن ذكره في هذا السياق مرسوم العفو رقم 7، إذ لم نشاهد أيّاً من “المؤثرين” والمتعاملين بالشأن العام تعاطى مع المرسوم بأي شكل من الأشكال وتولى زمام المبادرة في وجه ما تداولته صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لتقتصر مشاركة وسائل الإعلام السورية على اللقاء الذي جمع معاون وزير العدل والقاضي العسكري وما تضمنه من شرح لبنود المرسوم وحسب.
وانطلاقاً من ذلك نتساءل، لماذا لا يوجد لدينا قادة رأي؟ وإن كان يوجد فعلاً لماذا لا يؤدون دورهم القيادي؟.
إن مفهوم قيادة الرأي أخذ بُعداً أكثر عمقاً وتأثيراً مع التطورات التكنولوجية المتلاحقة ليخرج من سلطة الإعلام الموجه المقيد بمجموعة من المعايير، الأمر الذي يميز إعلامنا بشكل عام، وأدى بالمحصلة لفقدان ثقة الجمهور بالوسيلة، وبالتالي كل من يتحدث من منبر تلك الوسيلة، مع عدم وضوح الرؤية من قبل القائمين بالاتصال في المحطات والصحف والإذاعات والمواقع الإلكترونية للتعاطي مع مثل هكذا قضايا.
ونتج عن ذلك عزوف الشباب عن وسائل إعلامنا بكافة أشكالها، وتوجهه إلى فضاءات العالم الافتراضي وصفحاته الزرقاء- الصفراء، التي شكلت مصدر معلوماته الأول والأخير، وهنا علينا أن ننوه إلى غياب المهنية والأساسيات الصحفية عن إدارات أغلب الصفحات المُتابعة، واعتقادهم أن ما يقدمونه هو صحافة أو إعلام بشكل مختلف، وأن نشر ما هو مخالف لما يُعرض عبر وسائل الإعلام التقليدية، وتقديم “الحقيقة” التي يريدها الناس، بحسب اعتقاداتهم، هو الأسلوب الصحيح للعمل الإعلامي، ما عزز الشرخ الحاصل بين الجماهير والإعلام.
وقد لمسنا تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل الرأي العام، أو حرفه في بعض الحالات، وما تقوم به لتحريك العواطف والمشاعر باتجاه معين، حتى لو كان مخالفاً للواقع، ويحمل في طياته الكثير من المغالطات والمعلومات الخاطئة، ولكن عدم قدرة الإعلام التقليدي على التصدي لما يُنشر، أو تنحيته عن المشاركة الفاعلة، جعله قاصراً في التأثير على الرأي العام وتقديم قادة رأي، إضافة إلى تغييب مصدر المعلومة التي من شأنها أن تسهم في تصحيح ما يُشاع، والتي كانت جميعها عوامل أفقدت وسائل الإعلام القدرة على قيادة الرأي العام وإحداث التغير المرجو في المجتمع.
صناعة الرأي العام تعتمد على هندسة وإعادة برمجة العقل البشري وتوجيه سلوكه، وفي العصر الحالي، عصر طوفان المعلومات والأفكار، هناك حاجة لقياديين ومفكرين وصناع قرار يملكون شبكات واسعة لتبادل المعلومات من أجل التأثير على الآخرين لتبني الأفكار المطروحة والوصول بهم إلى الأهداف المرجوة.
ويتحقق ذلك بوجود العديد من العوامل المحيطة التي تساعد في ذلك، ومن أهمها وجود مؤسسات فاعلة تعزز قدرة من يمتلك شخصية قيادة، وتوجيهه في كيفية التعامل مع المعلومات وقضايا الرأي العام، إضافة لتبني الحلول وفقاً لترتيب الأولويات عبر إعلام مدروس وأدوات مبنية على الأدلة والإقناع والمنطقية.
ولنجاح أي خطة إعلامية لابد من أن تكون مبنية على دراسات وأبحاث تستهدف الكشف عن طبيعة وجوهر المشكلات التي يجب أن تتصدى لها أجهزة الإعلام، وبالتالي تحديد الأهداف الإعلامية بدقة ووضوح والعمل على تحقيقها، من خلال إعداد الكفاءات البشرية المتخصصة وتدريبها على فهم طبيعة التوجهات التي تقضيها كل مرحلة.
و أخيراً فإن أكبر خطر على المجتمعات هو تدمير طاقات شبابها سلوكياً وفكرياً ومحاولة التأثير على ولاءاتهم وأفكارهم، وعليه لابد من التصدي لذلك بتضافر جميع أجهزة الدولة لوضع استراتيجيات موحدة، والإفصاح بشفافية عن المعلومات التي توضح الصورة الحقيقية، بما يقطع الطريق على أي إعلام مضاد.