توسع الناتو لفتة مغرورة واستفزاز آخر ضد روسيا
البعث الأسبوعية- هناء شروف
أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في19 آيار الماضي إلى جانب رئيسي الدولتين المرشحتين للإنضمام إلى الناتو، السويد وفنلندا، أن البلدين سينضمان إلى أقوى تحالف دفاعي في تاريخ العالم، لكن في ضوء الهزيمة التاريخية، والإنسحاب المذل لقوات الناتو من أفغانستان العام الماضي، كان هذا بياناً مبالغاً فيه إلى حد ما.
من الواضح أن الظهور أمام البيت الأبيض والتصريح بهذا البيان لم يكن يتعلق بصحته التاريخية، بل كان لفتة مغرورة واستفزازاً آخر منظماً ضد روسيا التي أكدت في الماضي مراراً وتكراراً أن توسع الناتو إلى حدودها سيمثل تهديداً وجودياً لأمنها القومي، لأنه سينقل المزيد والمزيد من الأسلحة والأفراد العسكريين مباشرة إلى جوارها المباشر.
تشترك فنلندا في حدود مع روسيا يبلغ طولها أكثر من 1300 كيلومتر، وتتخلى عن 80 عاماً من الحياد مقابل عضويتها المرغوبة في الناتو، مقابل ذلك ذهب بايدن في تصريحاته إلى حد الادعاء بأن الأمر كله يتعلق بالمستقبل، وأن الناتو متجدد لديه الأدوات والموارد والوضوح والقناعة للدفاع عن “القيم المشتركة” وقيادة العالم. لكن أين يفترض أن يقود الناتو العالم، وما هو الغرض المتأصل؟.
نظام ونستون تشرشل العالمي
كان هذا الادعاء بأنه قوة مهيمنة عالمية لقضايا الأمن قد وضع بالفعل في مهد الناتو عندما أسست الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى الحلف، لكن من الخطأ افتراض أن الناتو قد تم إنشاؤه كتحالف دفاعي حتى كنظير دفاعي لحلف وارسو، خاصةً أن حلف الناتو سبق معاهدة وارسو بـ ست سنوات.
قبل بضع سنوات من تأسيس الناتو، ألقى السير وينستون تشرشل، سليل دوق مارلبورو خطاباً في 5 آذار 1946 في كلية وستمنستر في فولتون ميسوري، وسُجل في التاريخ على أنه “خطاب الستار الحديدي”. ومع ذلك، لم يكن تشرشل مهتماً بشكل أساسي بتشويه صورة الاتحاد السوفييتي والذي كان قد انتصر للتو على ألمانيا النازية مع خسائر فادحة.
لكن ما لم يتم الإبلاغ عنه تقريباً من هذا الخطاب هو حقيقة أن تشرشل أراد بالأحرى عسكرة الأمم المتحدة. وقال حرفياً: “يجب على منظمة الأمم المتحدة أن تبدأ على الفور في التجهيز بقوة مسلحة دولية”. كان من المقرر وضع هذه الوحدات العسكرية بما في ذلك القوات الجوية تحت ما أسماه تشرشل “منظمة عالمية”، تهيمن عليها بالطبع بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، لأن في رأيه كان هذا هو السبيل الوحيد لضمان السلام في العالمية.
وتابع: “لن يتم تحقيق الوقاية المؤكدة من الحرب ولا الصعود المستمر للمنظمة العالمية بدون ما أسميته الرابطة الأخوية للشعوب الناطقة باللغة الإنكليزية. وهذا يعني وجود علاقة خاصة بين الكومنولث البريطاني والإمبراطورية البريطانية و الولايات المتحدة” . وأضاف تشرشل، “إذا كانت جميع القوى والقناعات البريطانية الأخلاقية والمادية متحدة بشكل أخوي مع تلك الخاصة بالولايات المتحدة، فإن الطرق العليا في المستقبل ستكون واضحة ليس فقط بالنسبة لنا، ولكن للجميع وليس فقط لعصرنا، ولكن لمدة قرن قادم “.
الجذور الأنغلو أمريكية لحلف شمال الأطلسي
كان هذا المشروع الغريب لمنظمة عالمية في التقاليد الثقافية للإمبراطورية البريطانية جنباً إلى جنب مع القوة العسكرية الصناعية للولايات المتحدة، هو تحديد المستقبل. بعد ذلك، أبرمت بريطانيا العظمى والولايات المتحدة تحالفاً دفاعياً وثيقاً دائماً بما في ذلك القواعد العسكرية في جميع أنحاء العالم لاستخدامها بشكل مشترك والذي أصبح فيما بعد أساساً لتأسيس الناتو. كانت ردود الفعل على خطاب فولتون الذي ألقاه تشرشل مختلطة، حيث رأت صحيفة “شيكاغو صن” أنها “هيمنة بريطانية للأسلحة الأمريكية على العالم”.
رفض بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي فكرة أن تأخذ واشنطن إرث السياسة الاستعمارية البريطانية،ورفضت روسيا الاتهامات التي وجهها تشرشل. وتحدثت الصحف الروسية مثل “برافدا وإزفستيا” عن التدمير المتعمد للصداقة السوفيتية الأمريكية لصالح الهيمنة الأنغلو أمريكية إلى جانب التحضير للأنشطة العسكرية. وبالتالي فإن عسكرة الأمم المتحدة التي تصورها تشرشل والقوة الأنغلو أمريكية ضد الاتحاد السوفييتي، أسست فيما بعد الناتو كقوة عالمية خارج الإطار القانوني للأمم المتحدة.
في حفل التوقيع على معاهدة الناتو في 4 نيسان 1949 في واشنطن، أعلن الرئيس الأمريكي آنذاك هاري ترومان: “هناك من يدعي أن هذه المعاهدة هي عمل عدواني من جانب الدول التي تطوق شمال الأطلسي. غير صحيح على الإطلاق. سيكون للميثاق تأثير إيجابي وليس سلبي على السلام، وسيظهر تأثيره ليس فقط في المنطقة التي يغطيها على وجه التحديد ولكن في جميع أنحاء العالم”.
كان الناتو يتوسع بسرعة كبيرة في ذلك الوقت، وفي عام 1952 كان يضم بالفعل اليونان وتركيا. ومع ذلك لم يكن الأمر كذلك حتى وافق الحلفاء الغربيون أخيراً في عام 1955 على إعادة تسليح جمهورية ألمانيا الفيدرالية وانضمامها إلى الناتو من أجل ربطها بشكل دائم بالتحالف العسكري الغربي، حيث رد السوفييت على قوات ألمانيا الغربية في الناتو من خلال تشكيل حلف وارسو الذي وقعته ثماني دول من أوروبا الشرقية.
بعد تفكك حلف وارسو والاتحاد السوفييتي في عام 1991 لم يتفكك الناتو بل اغتنم الفرصة لتوسيعه الدرامي بعد إزالة واحدة من أكبر عقباته. لقد أدلى وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جيمس بيكر أمام الأمين العام للاتحاد السوفييتي آنذاك ميخائيل جورباتشوف بأن الناتو لن يتوسع أكثر باتجاه الشرق ولكنها كانت تصريحات جوفاء.
بعد فترة استراحة قصيرة حتى إنشاء مجلس الناتو، استمر الناتو في التوسع بل وانخرط في نزاع البلقان في أواخر التسعينيات، وبلغت ذروتها في القصف غير القانوني لبلغراد العاصمة الصربية في عام 1999. لقد أدى توسع الناتو اللاحق إلى الهيمنة الأنغلو أمريكية. واليوم إن عضوية أوكرانيا المنشودة في حلف شمال الأطلسي، والتي تم السعي إليها منذ عام 2008 والتسليح طويل الأمد للميليشيات الأوكرانية المتطرفة المناهضة لروسيا، هو مجرد واحد من العديد من الخطوط الحمراء التي تجاوزها الناتو.
استفزاز روسيا
ساهم الإنهاء الأحادي الجانب لمعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية وغيرها من اتفاقيات الحد من الأسلحة من قبل الولايات المتحدة، ونشر نظام دفاع صاروخي باليستي عالمي في هذا التصعيد، يضاف إلى ذلك زيادة المناورات الاستفزازية بالقرب من حدود الاتحاد الروسي.
كذلك استمرت سلسلة المناورات العسكرية للناتو في المنطقة المجاورة لروسيا، وآخرها عمليتان من أكبر العمليات في الوقت الحالي والتي تضم حوالي 18000 جندي من 20 دولة هما “ديفيندر يورب”، و”سويفت ريسبونس”، وهما تجريان في بولندا وثماني دول أخرى وتشمل عمليات إسقاط المظلات وهجمات طائرات الهليكوبتر في شمال مقدونيا. كذلك في إستونيا يشارك 15 ألف جندي من 14 دولة في مناورة “القنفذ” ، وهي واحدة من أكبر التدريبات العسكرية في البلاد منذ عام 1991.
وفي ألمانيا يشارك 7500 جندي في تمرين “ويتينر هايد”، وهو تدريب لقوة الرد التابعة لحلف شمال الأطلسي. وتستضيف بولندا ودول البلطيق الثلاث أكبر مناورات دفاعية جوية وصاروخية متكاملة في أوروبا في حزيران بمشاركة 23 دولة تسمى “تراث رامشتاين”، وتشمل مناورات “بالتوبس” التي تجري أيضاً في حزيران وتضم تدريبات برمائية في جميع أنحاء منطقة بحر البلطيق.
من الواضح أن الناتو غير مهتم على الإطلاق بتسوية أي نزاع مع روسيا على طاولة المفاوضات، وهو يعول إقليمياً وعالمياً على استسلام روسيا عسكرياً واقتصادياً. لكن زيادة التسلح المتصاعد لأوكرانيا، وعسكرة المناطق الحدودية مع روسيا يدفعان البشرية إلى الاقتراب أكثر من أي وقت مضى نحو صراع عسكري مفتوح بين القوى النووية وهو سيناريو أكثر خطورة مما كان عليه خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 وفقاً للعديد من الخبراء.