زينب الأعوج.. ساردة!
حسن حميد
أعترف بأنني من عشاق النثر الذي يكتبه الشعراء، فسردهم موسيقى لا تخلو من غموض خفيف، وانتباه لزوايا لا تراها إلا العين النفوذ، وإيقاعات لنهايات وخواتيم لا يعرف أسرارها إلا الشعر، وصور لا يبارحها الجمال ولا تزايلها الألوان.
في نثر الشعراء مسرّة سببها رشاقة اللغة واقتصادها، وارتطام الواقعي بالخيالي، وعبور العادي، فوق جسور لا نراها، نحو العجائبي والخارقي أو ما يسميه أهل المعرفة بالأسطوري!.
نثر بابلو نيرودا (1904 – 1973) في سيرته (أشهد أنني عشت) كتابة بكورية لم يتشقق عنها الضوء بعد، ومع ذلك فهي تضيء، ونثر عزرا باوند، وهو يروي ما حصل له في بلاده حين استُدرج من منفاه الفرنسي، هو كتابة بأعواد مشتعلة، ونثر نزار قباني، وهو يكتب سيرة البيت والمكان الدمشقي، هي كتابة فوق الماء ولكنها مقروءة، لأن نورانية ما تشعّ منها.
أقول هذا، لأنني وقعت على شيء مماثل في جماله وبهرته، وأنا أقرأ رواية زينب الأعوج (سويت أمريكا)، الصادرة حديثاً، فأنا أعرفها شاعرة من أبرز شواعر المغرب العربي، درست في الشام رفقة زوجها السارد العربي المهم واسيني الأعرج الذي يحمل لواء السرد في بلاده الجزائر، كما أعرف أنها دارت في حلقات واسعة لغربة واسعة أيضاً طلباً للعمل والمضايفة المعرفية.
رواية (سويت أمريكا) رواية مدهشة حقاً، لأنها رواية لا تكتبها إلا روح عاشت في المجتمع الأمريكي وعرفته حقّ المعرفة، كما لا تكتبها إلا أحاسيس اكتوت بعذاب لا تطيقه النفس البشرية، فأرادت التعبير عنه بهذه المشاهد الجارحة كي لا تفنى أو تتلاشى، كما لا تكتبها إلا ذات مهمومة بالتاريخ الجدير أن يُسمّى تاريخاً بشرياً، وذات لا تعرف السمو والجمال والخير إلا إذا كانت مشدودة إلى عالم الإنسان بعيداً عن لونه وجنسيته وعقيدته وتاريخه وموطنه!.
الرواية، ومنذ البداية، تدفع إلى صدر مشاهدها أسرة أمريكية، أصولها ليست أمريكية، مرّة يقال إنها هندية أو عربية، ومرّة أخرى يقال عنها إنها إسلامية في عقيدتها، الزوج والزوجة لديهما طفلتان متقاربتان في العمر، تحظيان بعناية فائقة، ومحبة عارمة، فنظنّ أنها عناية الأبوين ومحبتهما بالابنتين، لكننا نكتشف بأن الطفلتين واحدة أفغانية، والثانية يمنية، وقد تبناهما الزوجان لأسباب إنسانية عارفة بما حصل في أفغانستان واليمن!.
الزوج يشتري بيتاً خرباً مهملاً، لكنه واسع جداً، وفيه كنيسة، وحديقة، كان البيت للقس مالكوم، فيقوم بإصلاحه حتى غدا مكاناً رائعاً يأتيه الناس، ولكن المتعصبين الذين يدّعون الوطنية، ويحاربون الغرباء، لأنهم غرباء، يحاولون تهجير الزوجين وطردهما من المنطقة، ولعلّ قسوة أفعالهم تتجلّى في خطف الابنة الأفغانية واغتصابها وقتلها!.
هذا الصراع، وتقابلية الأضداد ما بين الخير والشر، والحق والباطل، والفضيلة والوغدنة، كلّها تسهم، عبر سيولة الأحداث والحادثات، في الكشف عن المستبطن الحقيقي للمجتمع الأمريكي الرأسمالي، وما يحفل به من متناقضات رهيبة لا تبدو جليّة كما ينبغي في أكثر الأحيان.
الرواية من صفحتها الأولى إلى صفحتها الأخيرة تماشي معنى الإنسانية الذي يجعل الفرد كائناً نورانياً إن تخلّى عن التعصب الأعمى لأيّ شيء، أيّاً كان هذا الشيء، رواية كتبتها ذات عارفة بالمكان، والطباع، والعقائد، فأبدت لنا المضمرات والخوافي العنصرية داخل المجتمع الأمريكي، والتي تشير إذا ما استفحلت “بسبب التعصب” إلى عواقب وخيمة، نقطة ضعف الرواية، أنها غلّبت العاطفية على العقلانية، ولاسيما في رسم النهايات والخواتيم، من أجل مثالية مبتغاة، مع أن الأحداث تدور في مجتمع مادي رأسمالي له مسننات أكول لا تحفل بالعاطفة أبداً، وقد جلتها الرواية وأبانتها تماماً لنعرف الذروة التي وصلت إليها الرأسمالية عبر ماديتها الجارحة.
الرواية (سويت أمريكا) تفصح عن قباحات التعصب ووسائله وأدواته وممارساته.. وغاياته البعيدة التي تدور في دائرة عماء.. لا تعريف لها سوى الغطرسة!.
hasanhamid55@yahoo.com