“سلامي إلى أم حمدي” لغسان حورانية.. الواقع من جانب آخر
تستيقظ “نوال” وتطلب من خادمتها تحضير فنجان القهوة، وتبدأ بارتشافه في جو شتوي رومانسي يحرّك لديها الرّغبة في الذّهاب إلى بلودان مع شقيقتها “فلك”، مشروع حالت الثّلوج دون تحقيقه ليحلّ مكانه زيارة سريعة إلى حيّهم القديم “شيخ محي الدّين” وتناول الفول النّابت والتّرمس والبليلة التي اشتهر بها محل “أبو راغب” القريب من منزلهم القديم قبل أن تنقلب حالهم ويدفنوا الفقر إلى غير رجعة وتنتقل للسكن بفيلا فخمة في حي “أبو رمانة”.. توقّف السّائق وأحضر للشقيقتين ما طلبتا، وفي هذه الأثناء تمرّ سيدة تثير انتباه نوال، إنّها جارتهم القديمة “أم حمدي”، تنزل من سيارتها وتعانقها بحرارة وتطلب رقم هاتفها وتدعوها إلى تناول الإفطار في منزلها واعدةً إياها بأن ترسل السّائق ليصحبها في الوقت المحدد.. تعود نوال وفلك إلى المنزل بعد أن حدّدتا المطعم الذي ستستقبلان فيه الضّيفات وحصلتا على بطاقات الدعوات.. تبدأان بوضع الأسماء وتوسيع دائرة المعزومات حتّى يصل عددهن إلى خمس وثّمانين، وكلهن زوجات وزراء وسفراء ومدراء شركات وسيدات أعمال.. تنبّه “فلك” أختها إلى أنّ “أم حمدي” التي كانت سبب العزيمة لا يمكن أن تحضرها بمعطفها المهترئ وشالها البالي، رأي توافق عليه نوال من دون تفكير أو إحساس بالذّنب وهي تشاهد بطاقة أم حمدي تشتعل بالموقد.. تفكر بأنّها نسيت “مرام خانم” وتقول: “سلامي على أم حمدي كانت لنا جارة طيبة!”.. هذه هي قصّة أم حمدي التي اختارها غسان حورانية من بين باقي العناوين لتكون عنوان مجموعته القصصية الصّادرة حديثاً عن دار بعل للطّباعة والنّشر والتّوزيع 2022.
تقع المجموعة في مائة وإحدى عشرة صفحة وتحتوي عشر قصص، أي بمعدّل عشر صفحات لكلّ قصّة كان من الممكن أن تُختصر إلى النّصف بالتّخلص من حشو لا يخدم الفكرة، بل على العكس يبثّ الملل ويقلّل من الشّوق لمعرفة النّهايات وهي هنا غالبتها جذّابة ومدهشة وفي الوقت ذاته متوقّعة وغير متوقّعة، نذكر مثلاً، يبدأ قصّة “عشتار” في الصّفحة التّاسعة وينهيها ببضعة سطور في السّادسة عشرة، وفيها يسترسل بالحديث عن امرأة مطلقة اسمها “سمر” تحاول دخول الوسط الثّقافي من خلال الكاتب “حسّان”، وتعقد معه اتّفاقاً بموجبه هو يكتب القصص والرّوايات وهي تقدّم له مبلغاً مادياً جيداً جداً بالنّسبة لوضعه مع التّنازل عن اسمه وتذييل جهده الفكري والجسدي باسمها.
يفصل حورانية بين القصّة والأخرى برسوم خطّتها أنامل ابنته “غنى” بالأبيض والأسود مستوحاة من القصّة التّالية –طبعاً- تذكّرنا بروايات الزّمن الماضي من حيث تصميم غلافها والرّسومات التّعبيرية التي كانت بداخلها، كذلك الأمر بالنّسبة للغلاف الذي صمّمه خلدون صقر، وفيه صورة فتاة غانية تسرح بمرآتها وبعوالمها الخفية، وبغض النّظر عمّا إذا تعمّد ذلك أم لا فهي لفتةٌ جميلة لذكريات أجمل خدمها لون ورق يقترب من الأصفر القديم لكن برائحة أقلّ قد لا يشمّها بعض أبطاله من أغنياء المدينة الذين يسكنون في أفخم القصور وأرقى المناطق، ولا سيّداتهم اللواتي لا يرتّبن أسرّتهن أو يصنعن قهوتهن بل يوظّفن لأجل ذلك، كـ”أم زاهر” في قصة “عامل المشتل” وسمر في “عشتار” ومثلهما كانت “نورا” قبل أن تتزوج من نذير في قصة “موعد”، ومقابل هذا المجتمع يقدّم حورانية مجتمعاً نقيضاً، فهناك “أم حمدي” ونذير أيضاً كاتب سيناريو ومدقّق لغوي يخشى ثورة زوجته واتهامها له بقلّة الحيلة والتّقاعس في البحث عن العمل الذي يأتي بالمال، كذلك العامل “ياسر” في قصة “علبة بسكويت” الذي لم يتخيّل يوماً مرافقة “خلدون” في سيارته الفاخرة إلى دمشق، وطالب المدرسة “توفيق” الذي يذهب إلى الامتحان ويضطر لوضع الكمامة في حذائه لوقف نزيف قدمه مقابل إلحاح المراقب بالسّؤال عن سبب عدم وضعه كمامة على وجهه حفاظاً على سلامة الجميع من المرض الذي يغزو العالم “كورونا”.
يلتقط حورانية هذا التّناقض بين الشّخصيات والأحداث بشكل دقيق ومحزن جدّاً، ففي قصّة “علبة بسكويت” يصوّر مرافقة العامل “ياسر” لربّ العمل “خلدون” من بيروت إلى دمشق، ويتوقّفان في استراحة قصيرةٍ لشراء الحلويات، وتحتار زوجة “خلدون” أي صنف ستشتري وتعود وفي سلّتها من كلّ شكلٍ ولون، ومثلها يفكر ياسر لكن ليس بالأصناف إنّما بالمبلغ الذي معه، هل يكفيه لشراء علبة بسكويت صغيرة لابنه وتأمين متطلبات الحياة اليومية أسبوعاً كاملاً أي حتّى نهاية الشّهر، وهو في معركته هذه تأتيه رسالة من زوجته تحوّل تفكيره كلّه في اتّجاه آخر ويعكف عن شراء أي شيء، فقد أخبرته أنّ خزّان الماء ثُقب والجيران يشتكون من التّسرّب.
يأخذ حورانية في كلّ قصصه دور الرّاوي فينتقد بشكلٍ لاذع ويسرد بلطف أحداث توحي بواقعية بعضها، ويؤكّد حدوثها في بعضها الآخر كقصّة “زيارة خاطفة” التي يذكر فيها اسم ابن خاله الحقيقي وهو ذاته الذي يخصّص الإهداء له، وفي أماكن أخرى يحلّل في الخلفية الثّقافية والاجتماعية والنّفسية للشّخصيات، كما لو أنّه يحاول أن يبرّر مواقفها من بعض القضايا، نقرأ مثلاً في قصّة “صاحب النّظارات”: “في غمرة ذلك الجوّ العبق بالسّعادة، لفت انتباهي شاب بدين بعض الشيء يضع نظّارة ذات إطار أسود، بدا لي أنّه عازب، لم يشارك الرّفاق بالغناء والرّقص، بل بقي محتفظاً بهدوئه متابعاً تقليب صفحات روايةٍ كانت تحتضنها يداه.. كان لوجود ذلك الشّاب أثراً طيباً في نفسي.. فقد رأيت فيه بعض العزاء لي”.
بقي أن نذكر أنّ هذه هي المجموعة القصصية الثّالثة لغسان حورانية بعد “القطّ أكل عشائي” و”قناع”، وله رواية “الرّوائي المهاجر” صادرة عن دار كنانة 2019.
نجوى صليبه