الجزائر قبلة الغاز الإفريقي
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
بصمت مدروس تتخلص الجزائر من نفوذ فرنسا بشقيه السياسي والاقتصادي، وبالصمت ذاته تتجه شرقاً إلى الصين، وشمالاً إلى روسيا. هذه الخطوات هي نتيجة طبيعية للتقلبات في العلاقات الجزائرية الفرنسية التي لا تزال رهينة لصخب الذاكرة في الموروث الشعبي. وبعد مرور ستين عاماً على انتهاء حرب الاستقلال، وتوقيع اتفاقيات “إيفيان” في 18 آذار 1962، تبقى العلاقة بين الجزائر وفرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، متقلبة منذ عهد شارل ديغول حتى إيمانويل ماكرون، أول رئيس فرنسي ولد بعد حرب الجزائر.
لم يذهب أيّ رئيس فرنسي إلى حدّ تقديم اعتذار للجزائر عن الاستعمار، وهو موضوع حساس للغاية في فرنسا حيث يجد الخطاب القومي المتطرّف مزيداً من الآذان المصغية. وفي أيلول 2021، تقلصت الآمال بحصول تقارب بعد تصريح لماكرون انتقد فيه “النظام السياسي العسكري” الذي يقوم على “ريع الذاكرة”، مشيراً إلى أن “الأمة الجزائرية” لم تكن موجودة قبل الاستعمار في 1830.
إن بشاعة الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال الفرنسي بحق الشعب الجزائري خلفت كمّاً من الجراح التي لم تلتئم بعد، وأخرى لا تزال تنزف بقوة، بل مفتوحة على آلام متفاقمة، ولاسيما بسبب ملفات الذاكرة المشتركة العالقة بين البلدين، التي لا تزال تداعياتها تلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين.
وهنا تتمسك الجزائر بمطلب اعتراف فرنسا بجرائمها إبان احتلالها لها والاعتذار عنها، بينما يرفض الطرف الفرنسي ذلك. وعلى الرغم من بعض الخطوات والتصريحات السياسية التي يطلقها القادة الفرنسيون بين الحين والآخر، لم تقم فرنسا بالاعتراف بجرائمها أثناء الاحتلال والاعتذار عنها، وهو ما تعتبره الجزائر مطلباً أساسياً من أجل تجاوز الماضي.
عموماً، إن جرائم الاحتلال الفرنسي للجزائر ثابتة بالشواهد التاريخية والوثائق الدولية، وراسخة في ذاكرة الأفراد والجماعات المتوارثة، وتعدّ من المسلمات التاريخية، لكن يبقى لذلك “الاعتراف” آثار معنوية وقانونية، ويدعم حق الضحايا الجزائريين في المطالبة بالتعويض، فارتكاب الدولة فعلاً غير مشروع دولياً يرتّب عليها مسؤولية دولية، وهو أحد الجوانب الأساسية التي عملت الحكومات الفرنسية المتعاقبة على تجنّبها.
الصين تقلب المعادلة
في 2012، كانت فرنسا أكبر مصدّر للسلع إلى الجزائر، بينما استحوذت الولايات المتحدة على لقب الزبون الأول لها بفضل وارداتها من الغاز المسال، لكن في 2013 قلبت الصين المعادلة، وباتت الشريك التجاري الأول للجزائر، حيث انتزعت الصين صدارة المصدّرين إلى الجزائر من فرنسا التي احتكرتها لعشرات السنين، وتحوّلت بكين إلى الشريك التجاري الأول للجزائر التي تبحث عن تنويع شركائها التجاريين، والتخلص نهائياً من التبعية الاقتصادية الفرنسية.
تزامن صعود الصين إلى صدارة الشركاء التجاريين للجزائر، متجاوزة فرنسا، مع إطلاقها في أيلول 2013 مبادرة “الحزام والطريق”، التي أعلنت الجزائر انضمامها إليها في 2014، لكن الانضمام الرسمي لم يتم إلا في 2019. وفي ذاك العام بلغت المبادلات التجارية الصينية الجزائرية 8 مليارات دولار، منها قرابة 7 مليارات صادرات صينية، ما أثار قلق شركاء الجزائر الأوروبيين من تقلص نفوذهم، رغم الامتيازات الجمركية التي حصلوا عليها بفضل اتفاق الشراكة.
صحيح أن الجزائر لا تقع على طريق الحرير التاريخي بين الصين وأوروبا، لكنها تمثل نقطة محورية في مبادرة “الحزام والطريق” لوقوعها في منطقة ربط بين أوروبا وإفريقيا. وفي هذا الصدد، عزّزت الصين استثماراتها في الجزائر، وانتقلت من قطاع المقاولات وإنجاز المشاريع العقارية والأشغال العامة والبنية التحتية إلى الاستثمار في قطاع المناجم والصناعات التحويلية.
لكن ومع انضمام الجزائر رسمياً إلى مبادرة “الحزام والطريق” في 2019، دخلت الشراكة مع بكين مرحلة جديدة بالاتفاق على إنجاز شركات صينية لمشروع أكبر ميناء إفريقي في حوض البحر الأبيض المتوسط بتكلفة 6 مليارات دولار، وبتمويل مشترك، من شأنه فك العزلة عن البلدان الإفريقية غير الساحلية، مثل مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو، حيث سيرتبط هذا الميناء بالطريق العابر للصحراء الذي يضم إلى جانب الجزائر كلاً من تونس ومالي والنيجر وتشاد ويصل إلى نيجيريا، ويكون مرفوقاً بخط للألياف البصرية، كما سيتبع مشروع أنبوب الغاز النيجيري مسار الطريق نفسه حتى يصل إلى شبكة أنابيب الغاز الجزائرية نحو أوروبا.
روسيا تعزّز حضورها
في 10 أيار الماضي، أجرى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف زيارة إلى الجزائر، والتقى الرئيس عبد المجيد تبون ودعاه للقاء بوتين في موسكو. خلال اللقاء أثار لافروف ملف الغاز وأيضاً التعاون العسكري والاستراتيجي، معلناً عن إعداد الطرفين “وثيقة استراتيجية”. فماذا يريد الروس من الجزائريين؟ وكيف تحقق الجزائر التوازن بين علاقاتها مع روسيا ومصالحها مع أوروبا؟ وما رمزية قمة تبون-بوتين المرتقبة؟.
يُعرف عن الجزائر التزامها بمبدأ مقدس في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدولية، هو النأي بالنفس عن التدخل في أي نزاع وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. هذا الموقف راسخ في دستور البلاد من خلال المادة 31 التي تقول: “تعمل الجزائر من أجل دعم التعاون الدولي، وتنمية العلاقات الودية بين الــدول على أساس المساواة، والمصلحة المتبادلة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. وتتبنى مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وأهدافه”.
يدرك الجميع أن الجزائر تحت ضغوط كبيرة جداً من الشركاء الأوروبيين لكي تزيد من صادرات الغاز إلى الأسواق الأوروبية، وخاصةً من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية بعد زيارة بلينكن التي جاءت لهذا الغرض، أي قبل زيارة لافروف. لكن في واقع الحال، لا يمكن للجزائر أن تعوّض الغاز الروسي الذي يغطي حوالي 40 بالمئة من حاجات أوروبا. وكل ما هنالك هو خط أنابيب مستقر يربط بين الجزائر وإيطاليا بسعة إجمالية حوالي 31 مليار متر مكعب، لكن لا يفي بالحاجات الأوروبية. أما بالنسبة للأنبوبين الآخرين فأحدهما عن طريق المغرب وهو متأثر بسبب العلاقات السيئة بين الجانبين، بالإضافة إلى أن هناك عقبة أخرى تتعلق بالسوق المحلية حيث إن الجزائر تستهلك كمية كبيرة من الغاز الطبيعي، وإذا استمرت في هذا المستوى فقد تصبح في المستقبل غير البعيد دولة غير قادرة على التصدير، حتى إن قطاع الطاقة الجزائري يحتاج إلى استثمار كبير جداً لكي تتمكّن البلاد من رفع قدراتها التصديرية، ومثل هذه الخطوات تفتقر إليها الحكومة الجزائرية.
بمعنى آخر يمكن للجزائر تلبية الطلب الأوروبي بمستوى معين ومحدّد، لكن لا يمكن أن تكون البديل للغاز الروسي. كمثال على ذلك، في العام الماضي أنتجت شركة غازبروم الروسية ما يزيد على 350 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، 150 مليار متر مكعب ذهب إلى الأسواق الأوروبية، ومثل هذه القدرة الإنتاجية الهائلة أكبر بكثير من كبرى عمالقة الطاقة في العالم، لذلك فإن مستوى الإنتاج الروسي لا يمكن أن يُقارن مع إمكانات الجزائر للإنتاج والتصدير، وما يمكن للجزائر أن تقوم به هو الإيفاء بحاجات بلد مثل إيطاليا لكن يستحيل أن تغطي حاجات القارة الأوروبية برمّتها.
العلاقات الجزائرية-الأمريكية
من الطبيعي أمام هذه المعطيات أن تتعرّض الجزائر إلى كل هذا الحجم من الضغط، وخاصةً في هذا الوقت الذي يشهد فيه العالم نقصاً في إمدادات النفط والغاز، وإمدادات الغذاء والقمح نتيجة الحرب الدائرة في أوكرانيا، ودعم القوى الغربية لإطالة أمد الحرب، مقابل فرض عقوبات غير مسبوقة في التاريخ على روسيا.
لكن ما لم تنسَه الجزائر أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ألحقت أضراراً بالغة بالعلاقات الجزائرية-الأمريكية، بسبب اعتراف ترامب المفاجئ بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، وربط هذا الملف باتفاقية السلام مع الكيان الإسرائيلي، ليتبعه أول صراع غير معلن بين البلدين في الملف الليبي بعد أن رفضت واشنطن ترشيح الجزائري رمطان لعمامرة خلفاً لغسان سلامة الذي استقال من منصبه كمبعوث أممي إلى ليبيا لأسباب صحية.
الفتور بين واشنطن والجزائر، كان يشمل أيضاً التعاون بين البلدين في المجال العسكري، حيث تصنّف الجزائر في خانة المشترين الخمسة الأوائل للأسلحة الروسية، بينما يصنّف المغرب كأول زبائن السلاح الأمريكي في منطقة شمال إفريقيا. كذلك لم تحقق الاستثمارات الأمريكية في الجزائر المستوى المطلوب للأمريكيين، بسبب المنافسة الشرسة التي تواجهها من الصين وروسيا، إذ تكشف إحصائيات رسمية أن حجم الاستثمارات الأمريكية في الجزائر بلغ 14 مليار دولار فقط منذ 2014.
اليوم يتساءل الشارع الجزائري عن مستقبل العلاقات الجزائرية-الأمريكية في ظل إدارة جو بايدن التي لم تأخذ حيّزاً واسعاً من الاهتمام، في وقت صوّبت فيه الجزائر بوصلتها نحو روسيا والعملاق الصيني اللذين باتا يشكّلان مصدر قلق كبيراً لأمريكا. وهنا تختلف آراء الخبراء والمتابعين للمشهد الدولي حول آفاق العلاقات بين البلدين، بين من يرى أن بايدن سيسير على خُطا سلفه الذي نسف العلاقات مع الجزائر في آخر أيام حكمه، ومن يعتقد أن بايدن سيكون أكثر مرونة وعقلانية لتحقيق المصالح الاستراتيجية الأمريكية الأساسية والتصدي لصعود خصومها في البلاد مثل روسيا والصين.
الحج الأوروبي إلى الجزائر
بعد أسابيع قليلة من العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، تعرّضت روسيا إلى عقوبات غير مسبوقة من الدول الغربية، لكن اتضح لاحقاً أن فصل روسيا عن الاقتصاد العالمي بفرض عقوبات شديدة يمثل تحدّياً لا يُستهان به، لأن روسيا تعتبر مورداً أساسياً للسلع والمواد الخام، التي لا يمكن استبدال أي منها بسهولة وخصوصاً في وقت تتزايد فيه التوترات الجيوسياسية، وانقطاعات سلاسل التوريد العالمية، وتتصاعد فيه معدلات التضخم العالمية.
لكن من الأمور التي باتت في حكم المؤكدة أن أزمة أوكرانيا وضعت العديد من الدول العربية المصدّرة للطاقة في موقف سياسي ملتبس، لكنه في المقابل عزز مركزيتها في اقتصاد الطاقة العالمي، وربما يؤدّي في النهاية إلى جني مكاسب سياسية واقتصادية.
تعدّ الجزائر من بين أكبر مورّدي الغاز لأوروبا باستخدام خطوط الأنابيب العابرة للحدود، والبلاد بمواردها وقربها من أوروبا، في موقع يؤهلها للاستفادة من التوجهات الأوروبية الجديدة في البحث عن بدائل للغاز الروسي. وهنا، يمكن الإشارة إلى أن صادرات الغاز الجزائرية ارتفعت بشكل قياسي بنسبة 43% في عام 2021 لتصل إلى 55 مليار متر مكعب، توجّه أكثر من 80% منها إلى أوروبا.
إن النظرة المستقبلية على المدى القريب لأسعار النفط والغاز العالمية ترسم صورة أكثر تفاؤلاً للتطورات الجديدة في النفط والغاز، ويمكن أن تقنع العديد من اللاعبين في هذا القطاع بتوجيه استثمارات جديدة نحو الجزائر. على سبيل المثال، أبرمت إيطاليا، التي تعدّ السوق الرئيسية للصادرات الجزائرية، مؤخراً اتفاقاً لزيادة واردات الغاز من الجزائر بنحو 40% في أول صفقة كبيرة لها لإيجاد إمدادات بديلة في أعقاب أزمة أوكرانيا. من ناحية أخرى، أشار العديد من الشركات إلى إمكانات الطاقة الشمسية الوفيرة للجزائر لتغذية أعمال الهيدروجين الخضراء التي يمكن أن تستفيد من خطوط الأنابيب الحالية.
كذلك اتفقت الجزائر والنيجر ونيجيريا مؤخراً على بناء خط أنابيب غاز عبر الصحراء يبلغ طوله 4128 كيلومتراً، سيمر عبر البلدان الثلاثة إلى أوروبا بمجرد اكتماله، وسينقل خط الأنابيب 30 مليار متر مكعب من الغاز سنويّاً. لكن وصول المشروع إلى تلك المرحلة سيكلف نحو 11 مليار دولار، وفي حال تمكّنت تلك الدول الثلاث من إقناع المشترين الأوروبيين بتمويل المشروع، فإن ذلك يمثل مكسباً اقتصادياً مهمّاً للجزائر.
إذاً هذا الحج الى الجزائر هو بسبب تفاقم التقلبات الشديدة في أسعار الطاقة التي شكّلت حالة من عدم اليقين بشأن الاستثمار والاستهلاك. ومن غير المستبعد أن يؤدّي الارتفاع الكبير في أسعار النفط والغاز إلى آثار معاكسة على المدى الطويل. والأهم أن الضغوط الكبيرة التي يتعرّض لها السياسيون، وخصوصاً في دول مثل الولايات المتحدة والعديد من الدول الصناعية، هي التي تدفعهم بطريقة أو بأخرى للبحث عن البدائل، وهو سيناريو يصبّ في النهاية في مصلحة الدول العربية المصدّرة للطاقة.
لذلك في وقت تتجه فيه الأنظار الدولية إلى مآلات الأزمة الروسية – الأوكرانية، دخلت الجزائر على الخط، باعتبارها أكبر مصدّر للغاز الذي يستورده الاتحاد الأوروبي، بعد روسيا والنرويج، الأمر الذي فتح المجال أمام الحديث عن توجّهات الجزائر بين أوروبا أو روسيا في حال اشتعال معركة “طاقة” في المنطقة.
وحسب وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية فإن أزمة الغاز في ظل سعي الدول الأوروبية لتأمين احتياجاتها من الغاز الطبيعي، تبقي الجزائر في أفضل مكان لتقديم هذه الخدمة، حيث تعتبر الجزائر حلقة رئيسة في سياسة روسيا المغاربية، بل الإفريقية، ليس فقط نتيجة الاعتبارات الأيديولوجية القديمة التي تميّز العلاقات الروسية – الجزائرية منذ استقلال البلاد، بل تتعدى ذلك إلى العمل أيضاً على تطوير المصالح الاقتصادية بالتركيز على ثلاثة قطاعات رئيسة هي الطاقة من النفط والغاز، والتعاون التقني في المجالات الصناعية والتنموية، وأخيراً التعاون العسكري.
ووفق تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، فإن من أبرز المستفيدين دولاً إفريقية مثل الجزائر، التي طالما كانت لاعباً متوسط المخاطر في سوق الطاقة العالمية، ولكن التطورات الأخيرة جعلت الأنظار تتجه إليها.