الجولة الثانية تضع ماكرون والحكومة على المحك
هيفاء علي
تثيرُ نتائج الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية التي جرت الأحد 12 حزيران، تساؤلات حول عودة الحياة السياسية الفرنسية إلى المواجهة التقليدية بين اليمين واليسار، عقب بروز ثلاثة أقطاب ستتنافس على حسم الاقتراع خلال الجولة الثانية المقرّرة في 19 حزيران.
الأقطاب الثلاثة التي جاءت في طليعة النتائج هي: “الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد” الذي يمثل تحالف اليسار واليسار الجذري بقيادة جان لوك ميلانشون، والتحالف الرئاسي “معاً” اليميني الوسطي بقيادة ماكرون، و”التجمع الوطني اليميني المتطرف” بزعامة مارين لوبن. فيما مُني زعيم حزب “الاسترداد” اليميني المتطرف إيريك زمور بهزيمة مدوية في الدورة الأولى للانتخابات التشريعية الفرنسية، ولم يحصل سوى على 23,2 بالمئة في إقليم فار جنوب فرنسا ليفقد كلّ حظوظه في الحصول على مقعد في الجمعية الوطنية. وتشير التقديرات الأولية إلى خسارة كبيرة لحزب زمور الذي لم يحصل سوى على نحو 4 بالمئة من مجمل الأصوات. وفي كلمته بعد الهزيمة، دعا زمور أنصار حزبه إلى مواصلة التعبئة والعمل في الميدان لتحقيق نتائج أفضل في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة. هذا وقد بلغت نسبة الامتناع عن المشاركة في هذه الانتخابات 52،8% وفق تقديرات معهد “إيسبوس” لاستطلاعات الرأي.
مراقبون اعتبروا هذه الانتخابات بمثابة امتداد سياسي للانتخابات الرئاسية التي جرت في 10 و14 نيسان الماضي التي استطاع فيها ماكرون هزيمة لوبن، لكنه لم يكن الانتصار المريح في ظل المنافسة الشرسة لزعيم اليسار المخضرم جان لوك ميلينشون، الذي حلّ ثالثاً في الانتخابات، ووضع نصب عينيه بعد خسارته في الجولة الرئاسية أن يصبح رئيساً للوزراء في الانتخابات التشريعية. وقد استمدت هذه الانتخابات قيمتها من مسؤوليتها عن رسم المشهد السياسي الفرنسي خلال السنوات الخمس المقبلة، لجهة ما يتعلّق بتركيبة البرلمان الجديد والتي عليها يكون تشكيل الحكومة وصلاحياتها الممنوحة، ومن ثم مدى قدرة ماكرون على تنفيذ برنامجه بأريحية كاملة.
ويعاني الرئيس الفرنسي -رغم فوزه في الانتخابات الرئاسية- من انتقادات شعبية حادة، كانت أبرزها تلك التي ترفعها حركة “السترات الصفراء” المستمرة في حراكها للعام الثالث على التوالي، وتجاوز سقف مطالبها تغيير الحكومة إلى المطالبة بتقديم ماكرون لاستقالته، ما مثّل ضغطاً كبيراً عليه خلال الآونة الأخيرة، استغله اليسار بشكل واضح. وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 شباط الماضي لتعمّق الأزمة، حيث الارتفاع الجنوني في أسعار المواد الغذائية، ثم تعرّض مستقبل الطاقة في البلاد للخطر في ضوء مناقشة فكرة الاستغناء عن الطاقة الروسية واستبدالها بمصادر من دول أخرى، ما وضع الإليزيه في مأزق حقيقي أمام الشارع الباحث عن الاستقرار السلعي الاستراتيجي مهما كان الثمن.
يبدو أن الخطاب الشعبوي الذي تبناه ماكرون في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وجاء بنتائج إيجابية مستمر معه في معركته البرلمانية الحاليّة، ففي كلمة ألقاها جنوب غرب البلاد الخميس 9 حزيران 2022 خاطب الحضور قائلاً: “لا شيء سيكون أخطر من أن نضيف إلى الاضطراب العالمي اضطراباً فرنسياً يقترحه المتشددون”، فيما وضع لوبن وميلانشون على رأس المتشددين المستهدفين.
يحاول ماكرون الاستفادة من المستجدات الإقليمية والدولية الحاليّة التي تميل إلى تبني خطاب أكثر اعتدالاً ومرونةً مما كان عليه الوضع في 2015 حين كان اليمين المتطرف في أوج قمته، وعليه بدأ في شيطنة هذا التيار أحياناً، والتحالف معه أحايين أخرى، وببراغماتية مطلقة نجح في توظيفه لحساب أجندته السياسية.
وكما وظف الرئيس هذا الخطاب في نيسان الماضي يوظفه اليوم في جولتي 12 و19 حزيران، مستفيداً بشكل كبير من غياب الرؤية التنفيذية لليسار الذي اكتفى بالتنظير دون تقديم البديل، ما أثر على شعبيته، وخاصة بعدما استقر في يقين شريحة كبيرة من المحافظين أن ميلانشون يتحدث أكثر مما يعمل.
حقيقة، تشكّل الانتخابات الحاليّة الحلقة الأقوى في تحديد هوية الحكومة الجديدة التي تشكلت منتصف أيار الماضي ومدى استمراريتها، إذ أن رئيسة الوزراء إليزابيت بورن وبعض أعضاء الحكومة مرشحون في الانتخابات، وعليه فإن هزيمتها في دائرتها الانتخابية في نورماندي (غرب) سيكون لها تبعات كثيرة أبرزها إجراء تعديل وزاري كبير.
وتدخل حكومة بورن وهي مكبلة بالعديد من التحديات والعقبات إثر عدد من القضايا الجدلية التي أثيرت مؤخراً، ومن المتوقع أن يكون لها ارتداداتها العكسية على حظوظ مرشحيها في الانتخابات، على رأسها اتهام وزير التضامن داميان أباد بالاغتصاب، فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم إلى 5% على أساس سنوي في نيسان الماضي، وهو ما لم يتقبله الفرنسيون.
وتبقى الساعات القليلة القادمة وما يتبعها في 19 من الشهر الحاليّ هي الفرشاة الحقيقية التي ترسم ملامح الفترة القادمة في ولاية ماكرون الجديدة، إما أغلبية تسمح له بتمرير مشروعاته وقراراته وفق خطته الإصلاحية الجديدة، وإما صدام مبكر ومستمر بينه وبين البرلمان والحكومة بما يحوّل السنوات الخمس القادمة إلى سجال ونزاع لا ناقة فيه للشارع الفرنسي ولا جمل!.