بعد 45 عاماً.. لم تتغير عقلية قادة الولايات المتحدة
البعث الأسبوعية-عناية ناصر
تعمل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة على صب الزيت على النار في الحرب الروسية الأوكرانية لإطالة أمد الأزمة، ومحاولة تقييد روسيا بعقوبات طويلة المدى و ممارسة الضغط العسكري عليها. هذه المعركة هي إلى حد بعيد أكبر حرب مباشرة منذ الحرب العالمية الثانية بين الغرب وروسيا، وستكون لها عواقب جيواستراتيجية حاسمة على العالم، وعلى أوروبا على وجه الخصوص.
بعد ما يقرب من 75 عاماً على الحرب العالمية الثانية، و 45 عاماً على نهاية الحرب الباردة، لم تتغير عقلية قادة الولايات المتحدة التي لا تزال تصر على العداء الأيديولوجي. ففي الوقت الذي تطالب فيه الولايات المتحدة الدول الأخرى تهدئة التوترات، ووقف سباق التسلح هناك ست من أكبر عشر شركات أسلحة في العالم هي أمريكية. كما أنه منذ عام 1999 إلى عام 2020، زاد عدد أعضاء الناتو من 16 إلى 30، ليحيطوا بروسيا على مساحة تزيد عن 3000 كيلومتر. وليس هذا فقط، حيث أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 6.4 تريليون دولار منذ عام 2001 على حروب في أكثر من 85 دولة، وأسفرت عن مقتل أكثر من 800 ألف شخص، بما في ذلك 335 ألف مدني، وتشريد 37 مليوناً. غالباً ما تفيد هذه التكاليف الفلكية شركات الأسلحة الأمريكية الخمس الكبرى: ( لوكهيد، وبوينغ، ورايثيون، ونورثروب غرومان، وجنرال دايناميكس)، حيث ارتفعت قيم أسهمها بأكثر من 58 في المائة خلال العقدين الماضيين.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، خططت الولايات المتحدة تدريجياً للحرب الروسية الأوكرانية، وسعت إلى فصل أوكرانيا عن روسيا، حيث أرادت واشنطن أن يكون لأوكرانيا الواقعة تحت سيطرتها اليد الطولى ضد الصين وروسيا، وأن تحافظ على وضعها كقوة عالمية منقطعة النظير. وقد تجسد ذلك خلال زيارة بايدن الأخيرة إلى وارسو، حيث دافع عن توسع الناتو باتجاه الشرق، زاعماً أن الناتو هو تحالف دفاعي، ولا ينوي أبداً تدمير روسيا. هذا الموقف يتناقض مع تأكيد قادة الولايات المتحدة على مدى العقدين الماضيين أن “الناتو لن يتقدم نحو أوروبا الشرقية شبراً واحد”.
تدرك الولايات المتحدة جيداً أنها لا تستطيع بسهولة الاعتداء على دولة عظمى تزيد مساحتها عن 17 مليون كيلومتر مربع، وتمتلك ترسانة نووية كبيرة، ومقعد دائم في مجلس الأمن حتى من خلال الناتو. ولذلك لجأت إلى العقوبات في محاولتها لإضعاف الكرملين سياسياً واقتصادياً وحتى أيديولوجياً، ودفع البلاد نحو التفكك. ووفقاً لمنصة مركز “كاستيلوم إيه إي” لـمعالجة بيانات مراقبة العقوبات الدولية، تم فرض أكثر من 5500 عقوبة على روسيا منذ عام 2014، وفي الأسبوعين الأولين على بدء الحرب الأوكرانية، تم فرض 2778 عقوبة جديدة على روسيا. تُظهر هذه البيانات الغريبة وغير المعقولة بوضوح أن الهدف النهائي للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ما هو إلا خلق “ثورة ملونة في روسيا” وتفكيك البلاد في نهاية المطاف.
إن محاولات الولايات المتحدة اليائسة للسيطرة على روسيا، ومحاولة إضعافها ليست جديدة، فعلى سبيل المثال، عندما أعلن رونالد ريغان عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي، أو مبادرة حرب النجوم في عام 1983، كان ينوي من وراءها إضعاف وإفلاس اقتصاد الاتحاد السوفييتي السابق بسباق تسلح في الفضاء.
وفي القرن العشرين، عندما سحبت الولايات المتحدة “سيفها الناعم” في شكل ثورات ملونة، وتأسيس ما يسمى بالقيم الديمقراطية، اتبعت نفس أيديولوجية الحرب الباردة التي أدت إلى التمرد، وعدم الاستقرار، والحرب، والفقر حول العالم.
إن عقلية الحرب الباردة متجذرة في البيت الأبيض، والبنتاغون، ووكالة المخابرات المركزية، وحلفاء الولايات المتحدة الغربيين، ولا توجد طريقة للتغلب عليها. ولعل قول أوباما إن “روسيا مجرد قوة إقليمية لا تخلق سوى انعدام الأمن لجيرانها”، وقول بايدن إن “روسيا استهدفت أمننا القومي، وأن الصين هي المنافس الرئيسي للولايات المتحدة”، هي جميعها تصريحات تنبع من ذهنية الحرب الباردة التي يجب أن تظل حاضرة بشكل دائم.
كان التفكير السائد في الولايات المتحدة هو أنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ستحبط تماماً كل جهود قادة الاتحاد الروسي، وبوتين على وجه الخصوص، للاقتراب من الغرب، وخاصة أوروبا، وتؤدي إلى حرب أوكرانيا.
وبشكل مشابه، تتماشى حملة الضغط الأمريكي المكثفة ضد الهند في أزمة أوكرانيا، بسبب موقفها المعتدل في الأزمة الأوكرانية مع تفكير الحرب الباردة. تتمتع الهند بعلاقات قوية مع روسيا، وتعتمد عليها جزئياً فيما يتعلق بمسائل الطاقة والمواد الخام والقضايا الجيوسياسية والجيواستراتيجية، ولذلك تدفع الولايات المتحدة الهند لتوضيح موقفها من خلال تكرار شعار جورج دبليو بوش خلال هجمات الحادي عشر من أيلول: “إما معنا أو ضدنا”.
ونظراً إلى الجغرافيا السياسية المعقدة في منطقتي الهند والمحيط الهادئ وأوراسيا، تخشى واشنطن من أن نيودلهي قد يكون لديها أفكاراً أخرى بشأن علاقاتها مع الغرب، وتقوية علاقاتها مع الصين وروسيا، وبعض القوى الإقليمية الأخرى. وعلى الرغم من أن الهند ليست “حليفاً استراتيجياً” لروسيا إلا أنها حاولت دائماً اتخاذ موقف متوازن في الأزمات الدولية في إطار دول عدم الانحياز، إلا أن الولايات المتحدة لا ترى في هذا الأمر كافياً وتطالب الهند وحتى الصين في الإنحياز والإصطفاف مع الولايات المتحدة والغرب بشكل واضح وصريح.
تكشف مراجعة تاريخ العلاقات بين الصين والهند عن إمكانات كبيرة، وقد أثارت زيارة وزير الخارجية الصيني الأخيرة إلى دلهي بعد توقف دام عامين، والسعي لتقليل الخلافات الحدودية بين الجانبين ناقوس الخطر بالنسبة للغرب والولايات المتحدة. نتيجة لذلك، استأنفت مجموعة الرباعية، التي تتكون من أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة المعادية للصين بشكل أساسي، اجتماعاتها وحوارها بعد سنوات من عدم النشاط، ومن المقرر أن تجتمع مرة أخرى في اليابان ما لم تتخذ الهند موقفاً لصالح أوكرانيا والعالم الغربي، كما تطالب الولايات المتحدة، محذرة في الأسابيع الأخيرة من “عواقب” موقف الهند الوسطي، وتُظهر هذه التهديدات الطبيعة المعقدة وغير المتوقعة للعلاقات بين الغرب والقوى العالمية.