مسرح الحرب وثيقة لا تردّ
بدا واضحاً من خلال المحاضرة التي ألقاها المسرحي سامر محمد إسماعيل مؤخراً في اتحاد الكتّاب الفلسطينيين، وحملت عنوان “المسرح والحرب”، أنه يتفق مع من يقول إن المسرح يزدهر دائماً في الأزمات، وعندما تمرّ المجتمعات بمنعطف تاريخي كالذي مررنا به في سورية. وبيَّن بدايةً أن الحرب لم تكن حدثاً طارئاً على المسرح السوري، فتاريخ المسرح القومي منذ تأسيسه الرسمي، عام 1959، حفل بعشرات التجارب، ورأى أن مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” لمخرجها علاء الدين كوكش عن نص لسعد الله ونوس أسّست لعشرات التجارب الفنية التي تناولتْ واقع السوريّين في الحرب، مشيراً إلى أنه كان للحرب ولاسيما نكسة حزيران 1967 أثر كبير على المُقترَح المسرحي السوري بشكل خاص، وقد أعاد هذا المُقترَح كتّاباً محليين إلى مقاربة النكسة في مؤلفاتهم المسرحية كما في نصوص “الشيخ والطريق” لعلي عقلة عرسان، و”السيل” لعلي كنعان، و”المهرج” و”العصفور الأحدب” لمحمد الماغوط والذي تشاركَ مع دريد لحام في تقديم صيغ أكثر اشتباكاً مع الواقع الراهن، فعبّروا بشكلٍ فني ومباشر عن خيبة أمل الجماهير العريضة للنكبات وللخيبات المتتالية، وأفادوا من تجربة المسرح الرحباني على صعيد الشكل الفني لتتوالى العروض مثل “رسول من قرية تميرة للاستفهام عن مسألة الحرب والسلام” إخراج فواز الساجر 1975 و”محاكمة الرجل الذي لم يُحارِب” كتابة ممدوح عدوان وإخراج فيصل الياسري و”كيف تركتَ السيف؟” كتابة ممدوح عدوان وإخراج داوود جلاجل و”أيها الإسرائيلي حان وقت الاستسلام” كتابة مصطفى الحلاج وإخراج فيصل الياسري، و”احتفال ليلي خاص لديرسدن” إخراج محمود خضور، و”سفر برلك” إخراج عجاج سليم، و”زيارة الملكة” إخراج محمود خضور، و”الزيارة” في المسرح الوطني الفلسطيني، إخراج حسن عويتي، و”رجل لرجل” إخراج فايز قزق، و”اضبطوا الساعات” إخراج حسن عويتي، و”ضيعة تشرين” لمحمد الماغوط ودريد لحام، و”الاغتصاب” إخراج جواد الأسدي التي كانت برأي إسماعيل أول عرض يحاول أن يُقَدّم خطاباً مختلفاً عن الخطابات التعبويّة، وناقش بشكل حقيقي مسألة الحق الفلسطيني، وكان من أبرز عروض الحرب التي قُدّمت أواخر الثمانينيات، إضافة إلى عروض أخرى مثل “حديث صحفي في بوينس آيرس” إخراج توفيق المؤذن و”أغنية في الممر” إخراج زيناتي قدسية و”الغرباء لا يشربون القهوة” إخراج محمد فردوس الأتاسي. وأشار إسماعيل إلى أن الأمثلة في هذا السياق كثيرة للغاية وتحتاج إلى نقاش مطوّل عن ماهيّة تلك التجارب التي وضعتْ المسرح السوري في مقدّمة المسارح العربية، إذ حفرتْ في وجدان جمهور عريض من عشّاقٍ ومتابعينٍ ونقّاد ومهتمّين ومتفرّجين شكلوا فيما بعد نواة لا يُستهان بها في تكوين الرأي العام حول قضايا أساسية في حياة المنطقة.
مساحة استثنائية
وأشار سامر محمد إسماعيل إلى أن مسرحيات الحرب صدّرت خطاباً مسرحياً كان يهدف إلى إعلاء قيم الحوار ونبذ ثقافة الكراهية، وقد صوّرت أهوال الحروب وضرائبها الباهظة على الأوطان والإنسان، كما ساهمتْ في اجتزاء مساحة لخطاب ثقافي فنّي فاضحة بذكاء الويلات التي جرّتها الحروب على إنسان المنطقة العربية، مؤكداً أن مسرح الحرب هو أرشيف بشري هائل ووثيقة لا تردّ عن أثر الأزمات في صياغة أنساق تفكير جماعية جديدة، ومساحة استثنائية لتشريح الواقعين الثقافي والاجتماعي، ومادة فنية خصبة شكّلتها عشرات التجارب التي قدّمها المسرحيّون في سورية والمنطقة منذ مطلع الستينيات وحتى نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة، مبيناً أن البلاد عندما شهدت عام 2011 أحداثاً دامية كان المسرح في طليعة من تصدّى لها بحساسية مغايرة في قراءة الأزمة الأكثر تعقيداً في تاريخ سورية المعاصر، فبعد أن كانت مسرحيات الحرب السوريّة في معظمها تختصّ بموضوع الصراع العربي الإسرائيلي، أوجدتْ الأزمة الجديدة مقترحات جديدة في عروض اشتبكتْ مع الواقع المعقد وحاولتْ تقديم قراءات مختلفة من زوايا نظر مغايرة، فعملتْ في معظمها على نبش الأسباب العميقة لهذه الأحداث دون الذهاب إلى نكء الجراح بتقديم أطروحات وضعتْ في حسبانها تحويل خشبة المسرح إلى ما يشبه منصة ديمقراطية للنقاش العام، وتصدير مقاربات للحظة السوريّة الساخنة دون تزويرٍ أو تحوير أو تشويه، وقد سادَ نوع من النقاش، حيث أصبح الفرد عضواً في هيئة الجمهور الذي اجتمع في صالة العرض بعيداً عن الانتماءات الحزبية والدينية والعرقية، وقد وحّدهم طقس الفرجة ضمن مجموعة متجانسة، سواء من حيث خضوعهم لشرط الحضور أو عبر ذوبانهم أثناء التلقي كلّ في مكانه وفقاً لذائقته ووعيه وحجم مشاهداته، منوهاً بأن المسارح السورية كانت في فترة الحرب واحة من واحات التفكير الحر.
الماغوط ولحام
وتوقف إسماعيل مطولاً عند العروض التي قُدّمَت لمحمد الماغوط ودريد لحام، وهي عروض اشتبكت مع الواقع، وكانت مناوئة للتيار الذي قُدّمت من خلاله أعمال ما زالت حتى الآن تحظى باهتمام الجماهير: “ضيعة تشرين- غربة- كاسك يا وطن-شقائق النعمان” التي وأن اتُّهِمَت بالمباشرة وسُمِّيت بالكباريه السياسي إلا أنها كانت برأيه تجربة مهمّة وبعيدة عن التفاصح على الجمهور واللغة الخشبية واستيراد نصوص أجنبية لا تمسّ الواقع الراهن ولا تمثل هواجس الجمهور الحقيقية، ولذلك حفرتْ عميقاً في وجدان جمهور كبير من عشاق المسرح.
خير خلف
وأوضح إسماعيل أن عروض مسرح الحرب ساهمت في تكوين جيل كامل من خلال كُتّاب وفنّانين كان لهم قصب السبق في جعل فن المسرح خطاباً مضاداً لها، وشكّل هؤلاء جميعاً خطوة لا يُستهان بها في تكوين الرأي العام وطرح مواقف نقدية مما حدث ويحدث ماضياً وحاضراً، حيث جهر المسرحيّون السوريّون بانتقادهم للحرب ووقفوا كخط دفاع أول في وجه الطغيان الديني واستنهضوا قيم التنوير ونَبَذَوا خطابات التحريض، وقد أوجدتْ الحرب مسارب عديدة لمسرحيّين لقول كلمتهم رغم الظروف الصعبة التي عملوا فيها والتي لم تحُل دون تقديم عشرات التجارب التي اتّخذت من الحرب موضوعاً لهاً، فكان المسرحيّون السوريّون خير خلف لجدّهم أبي خليل القباني الذي وقف في وجه قوى الظلام والتكفير، وتعرّض مسرحه في خان الجمرك بدمشق القديمة للإحراق على يد الغُلاة، ورأى أن التجارب المسرحية التي تناولت الحرب عصيّة على تحديدها بمكان جغرافي، إذ يمكن تقديمها في أي بقعة في العالم دون أن تشكّل اللغة حاجزاً بينها وبين الجمهور.
أمينة عباس