وثائق بلينكن.. وكومة التراب
كان تصريح وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أنتوني بلينكن منذ أيام مثيراً للاستغراب والدهشة عندما تحدث عن تقارير وهمية تفيد بأن روسيا تسرق الحبوب الأوكرانية واصفاً هذه التقارير “بالموثوقة” وهو ما نفته موسكو داحضة بذلك الموثوقية التي يدّعيها بلينكن.
أما ما يتعلق بما ادعاه بلينكن من موثوقية فلربما تتشابه موثوقيته مع تلك الموثوقية التي تحدث عنها زميله الأسبق كولن باول عام 2003 عندما تم غزو العراق بادعاءات لاعلاقة لها بالواقع ولا بالحقيقة.
وأما عن سرقة الحبوب الأوكرانية فيبدو أن السيد بلينكن الذي يتهم بها روسيا جزافاً وتعسفاً قد نسي أو بالمعنى الأصح “تناسى” سرقة بلاده للقمح والنفط السوريين في شمال شرق سورية في نفس اللحظة التي كان يتحدث فيها. فالسرقة الأمريكية للقمح والنفط في سورية تتم بشكل يومي وعلى مدار الساعة. ولسنا ندري عن أي موثوقية يتحدث إذ لا موثوقية أوضح وأدق وأدمغ من ضوء الشمس، ولا شاهد أفضح من وضح النهار حيث تقوم الولايات المتحدة خلاله بسرقة مقدرات الشعب السوري على رؤوس الأشهاد وأمام أعين الجميع دونما خجل أو وجل مسببة وبشكل متعمّد أزمة معيشية واقتصادية وصحية للشعب السوري.
لوزير خارجية أكثر دول العالم سرقة لخيرات الشعوب نقول: إنكم أيها المسؤولون الأمريكيون آخر من يحق له التحدث عن السرقة. لكن بكل تأكيد كل إناء ينضح بما فيه، وكلام المرء دائماً مرآة حقيقية تعكس حقيقة ما يدور في خلده، لأن السياسة الأمريكية لم نعهدها يوماً إلا ناهبةً وسالبة لمقدّرات الآخرين ومستولية عليها، ولا يشغلها شاغل على هذا الكوكب بقدر التفكير والتخطيط “الممنهج” لإيجاد الآليات والوسائل لسرقة خيرات الشعوب. ومصطلح “الممنهج” هنا مقصود وليس بالمصادفة لأن سرقة الشعوب الآمنة هي نهج ثابت وتاريخ مستمر كانت ولا تزال الإدارات الأمريكية المتعاقبة تسير على هديه وخطاه. ذلك النهج الأمريكي الذي بدأ منذ اليوم الأول بسرقة الأرض من أصحابها الأساسيين، ويعلم القاصي والداني كيف تأسست الولايات المتحدة الأمريكية على أشلاء ودماء الهنود الحمر الذين كانوا السكان الأصليين للأراضي الأمريكية وبجريمة دولية ضد الإنسانية أقل ما يمكن أن توصف به أنها جريمة “إبادة جماعية”.
بلينكن نسي أيضاً أو تناسى (لافرق كبيرا بين الكلمتين بالنسبة للولايات المتحدة صاحبة الذاكرة التاريخية المثقوبة) تصريحات دونالد ترامب رئيس الإدارة الأمريكية السالفة لعهد إدارته الحالية عندما صرح في منتدى تلفزيوني مطالباً بمنتهى الصفاقة بالاستيلاء على نفط الشرق الأوسط، هذا التعبير كان أحد تعبيرات ترامب المفضلة لديه في السياسة الخارجية الأمريكية على مرّ السنوات الأربع التي قضاها في البيت البيض، لاسيما أنه اعتبر النفط العراقي مكافأة للولايات المتحدة على احتلالها للعراق معتبراً النفط العراقي “غنيمة حرب”. وترامب نفسه عبّر بوضوح عن رغبته الجامحة بسرقة النفط الليبي ايضاً.
وبالعودة قليلاً إلى الوراء وتحديداً إلى سبعينيات القرن الماضي برزت فكرة استخدام القوة العسكرية الأمريكية لضمان وصول الولايات المتحدة إلى نفط الشرق الأوسط؛ فمع دخول الاتحاد السوفييتي السابق إلى أفغانستان ونجاح الثورة الإسلامية في إيران تعهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر حينذاك باستخدام أي وسيلة لازمة، بما في ذلك القوة العسكرية، للتغلب على أي تهديد للتدفق الآمن لنفط الشرق الأوسط وهي السياسة المعروفة منذ ذلك الحين بـ “مبدأ كارتر”، وهي في حقيقتها لم تكن إلا خطوة ضمن خطة أمريكية محكمة للوصول إلى نفط الشرق الأوسط والسيطرة عليه ونهبه.
وكذلك الأمر بالنسبة لعائلة بوش؛ حيث كان بوش الأب يعتبر نفط الخليج هدفاً استراتيجياً للولايات المتحدة، ثم جاء بوش الابن الذي تذرع بالأكاذيب والتلفيقات من أجل دخول القوات الأمريكية إلى بغداد، وكانت الغاية الأساسية من ذلك الغزو هي السيطرة على آبار النفط في العراق وتمّ تنفيذ ذلك فعلياً من خلال خصخصة شركات النفط العراقية وتوزيع أصولها على شركات غربية وأمريكية.
فالسيطرة على مقدرات الشعوب ونهبها هو نهج له جذور عميقة في دوائر نخبة صنّاع القرار في الإدارات الأمريكية المتعاقبة.
نسي السيد بلينكن تواطؤ بلاده مع تجار المخدرات في أفغانستان والنهب الأمريكي الفظيع الذي مورس على موارد أفغانستان من معادن ونفط وغاز بحجة مكافحة الإرهاب. محوّلة بذلك أفغانستان إلى البلد الاكثر فساداً في العالم.
وكثيرة هي الأمثلة التي لا حصر لها من السرقة الأمريكية لحقوق الشعوب بذرائع مختلفة تنادي بحقوق الإنسان لكن ليس لها أي علاقة بالإنسان أو الإنسانية أو الحقوق.
ومن ناحية ثانية فإنه من الطبيعي بل من البديهي للدولة التي تسرق مقدرات الدول الآمنة أن تغض الطرف وتخلق المبررات لحلفائها وأزلامها لسرقة أراضي الآخرين على غرار المبررات المزيفة التي تخلقها لنفسها؛ فسرقة الكيان الصهيوني للأراضي الفلسطينية وللجولان السوري وكذلك احتلال أردوغان للأراضي السورية في الشمال السوري وسرقته للثروات الزراعية والصناعية والأثرية والثقافية من قبل مخابراته ومرتزقته كل ذلك مسموح وطبيعي ولا ضير فيه بالنسبة للولايات المتحدة.
للسيد بلينكن نقول: من كان بيته من زجاج فلا يضربنّ الناس بالحجارة، ومن يقتل الشعوب ويسرق خيراتها في وضح النهار لا يحق له على الإطلاق التحدث عن أي شيء يمت للأخلاق والشرف والضمير الإنساني بصلة. وعندما تقرر النعامة الأمريكية أن تقلب الواقع وتزيف الحقائق وتتجاهل ما حولها لا تجد طريقة سوى أن تدفن رأسها في كومة من التراب.
شادي العاني