لماذا لا تكون دمشق؟!
أحمد حسن
كل حرب كاشفة، سواء أكان ذلك لمعادن الرجال وإرادتهم، صلابةً أو هشاشةً، أم لمواقع ومواقف الدول الحقيقية التي طالما سترتها بغطاء من الإعلام والنفاق والتغاضي العالمي المستمر.
حرب أوكرانيا ليست استثناء في ذلك، بل ربما كان لموقعها ونوعية الأطراف المنخرطة فيها وحجم الرهانات المتبادلة فيما بينها، دور أكبر في كشفٍ أعمق وأبعد غوراً.
وربما كان أهم ما كشفته الحرب الأوكرانية وهم الحياد، أو للدقة “التوافق الدولي” المزعوم عليه، الذي ادّعته دول مثل سويسرا وبنت عليه مجدها كمقر لمنظمات الأمم المتحدة ومكان للقاء المتصارعين للتحاور والنقاش والوصول إلى حل ما لقضاياهم.
وربما كان أوضح مثال لهذا الوهم، المتفق عليه، فشل الأمم المتحدة، مطلع العام الحالي، وبعد اندلاع الحرب، في ضمان مشاركة الوفد الروسي برئاسة وزير الخارجية الروسي اجتماعات لجنة نزع السلاح ومجلس حقوق الإنسان في جنيف السويسرية، وللمفارقة هذه فعالية نظمتها الأمانة العامة للأمم المتحدة نفسها.
لكن الأخطر من ذلك ليس ضمان المشاركة في النشاطات فهذا أمر يمكن حلّه، بل في حقيقة أن المشاركين واجتماعاتهم ونقاشاتهم، مفتوحة بالكامل أمام أجهزة المخابرات الغربية كي توجّه النقاش، والنتائج، في الطريق الذي تريده، فتضغط على طرف، وتشدّ من أزر الآخر بالنصائح والمشورة والتهديد و”المال” الذي يسند، ويصنع، المواقف “الوطنية” حين الحاجة.
فأن لا تشارك سويسرا “في أي حرب مسلحة مع الدول الأخرى” كما ينص دستورها الحيادي، لا يعني، ولم يكن كذلك يوماً، ألا تشاركَ هذه الدولة المحايدة المخابرات الأمريكية تحديداً – وبقبول حكومي كامل – كل المعلومات التي تريدها عن الآخرين، ومثلاً في مطلع عام 2020 شهدت سويسرا المحايدة كشفاً إعلامياً لفضيحة من نمط ما يطلق عليه السرّ المعلن، فقد كشفت الصحف حينها عن غض نظر جماعي من كل السلطات السياسية والإعلامية “لعقود من الزمن” عن “استخدام وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ودائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية لتكنولوجيا تشفير تعتمدها شركة سويسرية للكشف عن مضمون الرسائل السرية لدول أخرى”.
إذاً، كما قالت حينها الافتتاحية المشتركة لصحيفتي “24 ساعة” و”تريبون دو جنيف” الصادرتين بالفرنسية: “كانت الشائعات التي راجت في بداية التسعينيات صحيحة. لقد كانت سويسرا الجيّدة – المُحايدة وغير المنحازة – مأوى لما يُشبه وكالة لأجهزة مخابرات حليفة”!
بهذا المعنى يبدو سؤالنا “السوري” مشروعاً وملحّاً في الآن ذاته: لماذا الإصرار على “جنيف” كمكان لاجتماع “دستوريتنا”، بينما طرفٌ دولي كبيرٌ وراعٍ أساس لهذا الاجتماع يتعرّض لمضايقات رسمية على خلفية موقف أوروبا – التي تكفل حياد سويسرا – منه؟؟ والأهم من ذلك، لماذا يجري حوار سوري – سوري، على ما يفترض الأمر ونصّ القرارات الدولية ذات الصلة، بهذه الأهمية البالغة لمستقبل بلد وشعب في مدينة مفتوحة لكل أنواع التدخل والتأثير والتوجيه؟!.
العالم يتغيّر.. “غير بيدرسون” أعلن مؤخراً أنه يريد تغيير آلية عمل “اللجنة الدستورية” لأنها لم تعُد ناجعة، كما يقول. إذاً.. لِمْ لا نغيّر مكان انعقادها أيضاً؟ فهو ليس محايداً كما تقول وسائل إعلامه ذاتها، والأهم، لِمْ لا تكون دمشق، صاحبة القضية والمعنيّ الرئيس، بها؟ وفي حال الرفض هل يكون الإصرار على جنيف، وشقيقاتها، من البعض اعترافاً علنياً بغلبة المكوّن “اللا سوري” عليهم؟! ذلك أمر نأمل ألا يكون صحيحاً، لكن مختبر ذلك ليس إلا دمشق.. ودمشق فقط لا غير.