حقل “كاريش” يضع المنطقة على صفيح ساخن وسيط أمريكي غير نزيه والكيان الصهيوني مصرّ على فرض الأمر الواقع
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
تتركّز الأزمة في النزاع بین لبنان والكيان الإسرائيلي حول البلوك رقم “9” الواقع عند خط الحدود بین لبنان وفلسطين المحتلة، وقد رفض لبنان الاتفاقية الإسرائيلية القبرصية بسبب عدم موافقتها على النقطة الثلاثیة بین الكيانات الثلاث التي حدّدتها الاتفاقية، والتي أدّت إلى الاعتداء على ما یقارب 850 كم مربع من المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بلبنان. واستمر مسلسل الصراع بين البلدين في 9 شباط 2018، عندما أعلن لبنان عن توقیع اتفاقیتین مع شركات “توتال” الفرنسیة، و”إیني” الإیطالیة، و”نوفاتاك” الروسية للتنقيب وإنتاج النفط والغاز من البحر في البلوك 4 والبلوك 9 الذي یقع جزء منه في المیاه المتنازع علیها مع الكيان الصهيوني.
وعلى الرغم من توصّل لبنان وقبرص في 2007 إلى رسم الخط الوسطي بين البلدين، إلا أنه لم يتم تحديد النقطة الجنوبية أو الشمالية لهذا الخط، إذ كان يتطلب تحديد النقطة الجنوبية عقد اجتماع ثلاثي، وبما أن لبنان في حال حرب مع الكيان الصهيوني، فلا يمكن عقد اجتماع كهذا بشكل مفاوضات مباشرة كي لا تمنح عدوّها فرصة الاعتراف به.
وأكدت الاتفاقية البحرية بين قبرص ولبنان عدم قيام أيّ من الطرفين بالاتفاق مع طرف ثالث دون العودة إلى الطرف الثاني للحصول على موافقته المسبقة، لكن بادرت نيقوسيا لاحقاً إلى الاتفاق مع الكيان الاسرائيلي برسم حدود منطقتها الاقتصادية الخالصة معه دون إعلام لبنان، الأمر الذي أدّى إلى وضع يد “إسرائيل” على مناطق مهمّة نفطياً في أقصى المياه الجنوبية اللبنانية.
ويلاحظ أن هذا الخلاف بين لبنان و”إسرائيل” لم يتوقّف عند حدّ التصريحات العدائية، بل وصل إلى أروقة الأمم المتحدة، في ظل العديد من الوساطات الدولية من الولايات المتحدة. وما يفسّر هذه المواقف الأمريكية هو مصالح أمريكا في هذه المنطقة وفي مقدّمتها وجود “إسرائيل” من بين القوى الفاعلة في شرق المتوسط، حيث تضغط اللوبيات العاملة في الولايات المتحدة لمصلحة “إسرائيل”، ثم الشركات الأمريكية العاملة في مجالات الغاز، فضلاً عن ارتباط أمريكا بحليفها الإستراتيجي الإتحاد الأوروبي حيث تسعى معه إلى تخفيف الاعتماد على الغاز الروسي.
صفيح ساخن
لا شك أن أي نشاط للكيان الإسرائيلي في منطقة بحرية متنازع عليها يشكل استفزازاً وعملاً عدوانياً، لكن الكيان الصهيوني يبدو أنه مصرّ على فرض الأمر الواقع بعدما وصلت وحدة الإنتاج والتخزين العائمة ” إنيرجيان أويل آند غاز” إلى حقل كاريش، وتعتزم بدء تشغيلها في الربع الثالث من العام، ما يعني أن محاولات العدو الإسرائيلي افتعال أزمة جديدة، من خلال التعدي على ثروة لبنان المائية، وفرض أمر واقع في منطقة متنازع عليها، هو أمر في منتهى الخطورة.
وبشكل طبيعي، هذا السلوك الصهيوني سيضع المنطقة “على صفيح ساخن”، وقد يكون “شرارة حرب” في المنطقة في ظل المناوشات الدائرة بين الكيان الإسرائيلي ومحور المقاومة، ولذلك من الضروري الإسراع في تأليف الحكومة الجديدة- 23 حزيران الجاري سيكون موعداً لعقد الاستشارات النيابية لتسمية الرئيس المكلف بتشكيل حكومة جديدة للبلاد- التي أصبحت أكثر من ضرورة، حتى يكون لبنان مستعداً لمواجهة شتى الاحتمالات.
لقد استفاد الكيان الاسرائيلي من مسألة عدم تثبيت الخط 29 كحدود للبنان لدى الأمم المتحدة، لذلك هو يريد أن يكرّس أمراً واقعاً عند تلك الحدود، وهذه التطورات قد تدفع المسؤولين اللبنانيين إلى توقيع المرسوم الحكومي رقم 6433 الذي يقضي بتعديل خط الحدود البحرية من الخط 23 الى 29 في الخرائط المودعة لدى الأمم المتحدة. عند ذلك، يمكن أن يكون لدى الجانب اللبناني حجة قانونية في مسألة المفاوضات، وإرغام الكيان الصهيوني على عدم الحفر والإنتاج من حقل “كاريش”، وهنا من الطبيعي أن يلجأ لبنان إلى القوانين الدولية التابعة للأمم المتحدة. لذلك الجميع في لبنان في حالة تريّث، ومع فتح الأبواب أمام مزيد من المفاوضات من أجل فرض قواعد جديدة، بما لا يسمح للإسرائيليين بالحفر والإنتاج من هذه الحقول النفطية.
إن ما تقوم به “إسرائيل” بالمنطقة الحدودية البحرية، هو أقرب إلى عملية الضغط من أجل العودة للتفاوض، وفرض شروط معينة على الجانب اللبناني، وخاصةً أن هناك مراقبة دولية شديدة للمستجدات عند الحدود الجنوبية اللبنانية من الفرنسيين خصوصاً والاتحاد الأوروبي عموماً، وأن الأوروبيين والأميركيين ليسوا بصدد تأجيج الأمور ودفعها نحو الحرب، لأن اندلاع الحرب هو آخر الاحتمالات.
الموقف اللبناني
ومقابل إجماع اللبنانيين على رفض خطوة الكيان الإسرائيلي، يرى خبراء أن الأخير يملك أوراق قوة تتجاوز استنادها إلى دعم واشنطن مستفيدة من تشتّت الموقف في بيروت، والفارق بين ما أودعته رسمياً لدى الأمم المتحدة لجهة اعتبار أن المنطقة المتنازع عليها تبلغ 860 كيلومتراً مربعاً، وبين مطالب غير رسمية تستند إلى خرائط الجيش اللبناني التي تعطي البلد الحق بـ1430 كيلومتراً إضافية، وتعتبر أن المساحة المتنازع عليها تتضمّن حقل كاريش حتى الخط 29 بوصفه منطقة ضمن المساحة اللبنانية، وتبلغ 2290 كيلومتراً مربعاً.
وتعالت أصوات نواب يطالبون الحكومة ورئيس الجمهورية بالتوقيع على تعديل المرسوم 6433 واعتماد الخط 29 بدل الخط 23. وأعلن العميد بسام ياسين رئيس الوفد اللبناني التقني العسكري المفاوض أن “تمسك لبنان بالخط 29 بدل الخط 23 يضمن حقوقه بحقل كاريش النفطي كحقل متنازع عليه رسمياً.
تاريخياً، يعاني لبنان منذ نشأته على مستوى ترسيم حدوده البحرية، فقد أضحى هذا الترسيم صراعاً على ثروة غازية ونفطية لم يستفد لبنان منها يوماً. وأول ملامحها، بدأ عام 2002 حين كلفت حكومة لبنان مركزاً بريطانياً لإعداد دراسة حول كيفية ترسيم حدود المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وتالياً المسح جيولوجياً عن النفط والغاز بهذه المنطقة قبل أن يصطدم بعدم توفر خرائط بحرية دقيقة للمنطقة الفاصلة بين جنوب لبنان وشمالي فلسطين المحتلة.
وعام 2009، حدّدت حكومة رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة الحدود بالخط 23، ثم ثبّتت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011 النقطة كحق للبنان لدى الأمم المتحدة، وقدّرت بـ860 كيلومتراً مربعاً عبر مرسوم يحمل رقم 6433.
ولأول مرة، انطلقت مفاوضات غير مباشرة بين الجانبين اللبناني والإسرائيلي برأس الناقورة في تشرين الأول 2020، برعاية الأمم المتحدة ووساطة أمريكية، واستمرت 5 جولات حتى أيار 2021، وأهم أسباب تعليقها إبراز الجانب اللبناني خرائط جديدة لإثبات حق لبنان حتى الخط 29 التي تتضمّن حقل كاريش كمنطقة متنازع عليها، وهي غنية بالنفط والغاز.
خيارات واشنطن
لقد استغلت “إسرائيل” ثغرة ربط المسؤولين اللبنانيين القضايا ببعضها، فباشرت بعمليات التنقيب، إذ لا يحق للبنان رسمياً أمام الأمم المتحدة الاعتراض، لأنه لم يثبت حقه بالخط 29، ويصعب التجاوب الدولي معه، لذلك تقارب واشنطن الملف عبر وسيطها بسيناريوهات عدة:
- مراعاة وضع الائتلاف الإسرائيلي المهدّد بالتداعي وعدم إغفال مصالحه بحسابات التصعيد أو التهدئة مع لبنان.
- ربط استمرار المفاوضات بعدم مطالبة لبنان بالخط 29.
- استشراف موقف لبنان الرسمي عبر وسيطها، والدفع لعدم المطالبة بالخط 29، مقابل التأسيس لعملية تفاوضية جديدة تراعي مصلحة تل أبيب أولاً.
- سعي الإدارة الأميركية إلى إنجاز المفاوضات لمصلحة “إسرائيل” بصورة كاملة على حساب لبنان، لتسجيله ولو كانتصار صغير بالسياسة الخارجية.
هذه الخيارات قد تكون أولويات للوسيط الأمريكي، لأن إدارة الرئيس جو بايدن فقيرة بإنجازاتها الخارجية، باستثناء الدعم الحالي الذي تقدّمه لأوكرانيا ضد روسيا.
مسؤولية قبرص واليونان
يعتبر النزاع اللبناني- الإسرائيلي على ترسيم الحدود البحرية والاستفادة من ثروات النفط والغاز شرق البحر المتوسط جزءاً من صراع أوسع وأشمل، يضم عدة نزاعات متداخلة، ويعود هذا التشعب في المشكلة في أصله إلى دولة واحدة شرق البحر المتوسط، ألا وهي قبرص المدعومة من اليونان ومن خلفهما الاتحاد الأوروبي. ولعل تداخل الادّعاءات البحرية للكثير من الدول شرق البحر المتوسط، ناهيك عن اعتمادها معايير وقواعد مختلفة لتحديد حقوقها وعدم وجود أرضية مشتركة للتفاوض، كان يقتضي ضرورة عدم القيام بإجراءات أحادية الجانب من أي طرف، وجلوس جميع الأطراف المعنية على طاولة المفاوضات للتوصل إلى تفاهمات تقضي بتقاسم عادل للثروات واستفادة الجميع منها في الاستهلاك والتصدير.
لكن الذي حصل أنّ قبرص قررت الذهاب منفردة في عام 2003 في إجراءات غيّرت من معالم شرق البحر المتوسط، وأدخلت باقي الدول في صراع بعضها مع بعض. ففي عام 2003 وقّعت قبرص اتفاقية مع مصر، وفي عام 2007 وقعت مع لبنان، وفي عام 2010 وقعت مع “إسرائيل”. أدّت هذه الاتفاقيات إلى مشكلات مع دول أخرى، حيث رفضت تركيا الاعتراف بالإجراءات القبرصية الأحادية التي انتهكت حقوقها، وحقوق القبارصة الأتراك، كما تعارضت اتفاقية قبرص- “إسرائيل” مع الاتفاقية التي كانت قبرص قد وقعتها مع لبنان، وهو ما خلق المشكلة التي يعاني منها لبنان اليوم، والتوتر الحاصل بين بيروت وتل أبيب حول الحقوق البحرية شرق البحر المتوسط.
اليونان، الداعم الأساسي لقبرص والطفل المدلل للاتحاد الأوروبي، أدّت دوراً أساسياً في تفاقم الخلافات شرق المتوسط، سواء من خلال دعمها قبرص، أو المطالبة بادعاءات لمساحات بحرية كبيرة ولا سيما مع تركيا، أو من خلال جهودها لعزل المزيد من الدول في المنطقة، واقتراحها خط أنابيب “إيست مد” بدعم أوروبي، وأخيراً من خلال شركاتها.
في الحالة اللبنانية، فإن الشركة التي تستعين بها “إسرائيل” لاستخراج الغاز من حقل كاريش موضوع الملف المتنازع عليه، هي شركة يونانية تدعى “إنيرجيان أويل آند غاز”. وقد استثمرت الشركة في الحقل وحظيت على عدة عقود مع “إسرائيل”، وكانت تتوقع استخراج الغاز من الحقل المذكور في عام 2021، لكن العملية تأخرت قليلاً. وتشارك الشركة اليونانية اليوم في التصعيد الجاري بين لبنان و”إسرائيل” من خلال مواصلتها العمل هناك.
سيناريوهات في الأفق
التصعيد بين لبنان و”إسرائيل”، وانشغال الوسيط الأمريكي بالحرب الأوكرانية، يجعل الأزمة مستمرة ودون حل، رغم أن لبنان أودع لدى الأمم المتحدة قبل أسابيع، رسالة يؤكّد فيها تمسّكه بحقوقه وثروته البحرية، وأن حقل “كاريش” الذي استولت عليه “إسرائيل” يقع ضمن المنطقة المتنازع عليها، وجرى تعميمها في حينه على كل أعضاء مجلس الأمن الدولي كوثيقة من وثائق المجلس. وطلب لبنان من مجلس الأمن عدم قيام “إسرائيل” بأي أعمال تنقيب في المناطق المتنازع عليها، تجنباً لخطوات قد تشكّل تهديداً للسلم والأمن الدوليين، كما أكّدت الرسالة أن لبنان ما زال يعول على نجاح مساعي الوساطة التي يقوم بها الوسيط الأمريكي، آموس هوكشتاين، للتوصل إلى حل تفاوضي لمسألة الحدود البحرية برعاية الأمم المتحدة.
لكن في المقابل، تماطل “إسرائيل” في عملية التفاوض، وسط غياب الوسيط الأمريكي عن السعي إلى إيجاد حلول بين الطرفين، والاتفاق على المناطق التي يحق لكل طرف أن يحصل من خلالها على النفط والغاز، وخاصةً أن أعمال التنقيب من الجهة اللبنانية تأخرت في المناطق المتنازع عليها، حيث لا يحق لأي طرف أن يبدأ التنقيب، و”إسرائيل” تستفيد من انشغال لبنان بأزماته الداخلية وعدم اتفاق اللبنانيين على بدء أعمال التنقيب، كما أن هناك حالة فتور وغياب للحماس لدى الشركات الأجنبية للتنقيب في أماكن متنازع عليها، في حين تستطيع “إسرائيل” فعل ذلك عبر شركاتها الخاصة، وهي طبعاً تستفيد من الحماية الأمريكية، ولن تتعرّض لأي ضغط أمريكي أو أوروبي.
لذلك كل الاحتمالات واردة، ويمكن أن تتوقف المفاوضات، أو أن يلجأ لبنان للحفر والتنقيب أيضاً، والاحتمال الثالث هو التصعيد والتهديدات المتبادلة، لكن لن يؤدّي الأمر إلى أي مواجهة أو انفجار، بل ستكون المنطقة برمّتها أمام أزمات سياسية.