قطاع “المعترين والفاسدين” ؟! اقتصاد الظل مثل الفساد لا يمكن إلغاؤه نهائياً .. والبرامج فقدت مصداقيتها!
البعث الأسبوعية- مادلين جليس
على الرغم من الآراء الكثيرة التي نادت بأن الأزمة أوجدت اقتصاد الظل، إلا أن هذه الآراء لا تتعدى كونها كلام في الهواء.
فهذا القطاع كان موجوداً قبل عام ٢٠١٠ ، لكن بنسبة حينها لم تكن تتجاوز 30%، وبالتالي وجد في سنوات الأزمة بيئة خصبة ليتمدد ويتجاوز الـ 90 % حسب تقديرات اقتصادية، والـ ١٠٠% كما يرى الخبراء.
ولا ننسى أنه على الرغم من كونه قطاع “المعتّرين” وصغار الكسبة، إلا أنه أيضا ساحة واسعة لكبار المحتكرين والفاسدين.
مغامرة خطرة!
لكن الخوض في اقتصاد الظل أشبه بمغامرة محفوفة بالمخاطر، كما يرى الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة حلب الدكتور حسن حزوري، فحتى تاريخه لم يتفق الاقتصاديون على إطار ثابت لمضمونه محدد ودقيق.
لكنه يعرفه بأنه: كل نشاط اقتصادي غير قانوني سواء كان يمس مسائل مشروعة من الناحية الأخلاقية والنظامية العامة أو غير مشروعة، أي مجمل الأنشطة التي لا تتم تحت مظلة القانون وشفافيته”.
الفساد الإداري.. السبب الأوّل
الأنظمة الضريبية غير العادلة والفساد الإداري وانخفاض النمو الاقتصادي هي السبب الأهم وراء نشوء اقتصاد الظل بحسب الدكتور رامي زيدان أستاذ الاقتصاد في كلية إدارة المشافي بجامعة الأندلس، إضافة إلى التسرب من المدارس وكثرة القوانين وتعقيدها.
أما الدكتور حزوري فيشير إلى ندرة بعض السلع وانتشار السوق السوداء (أزمة محروقات ومشتقات نفطية، أزمة اسمنت )، وعدم مرونة وواقعية بعض التشريعات المالية والاقتصادية، كلها كانت سبباً في انتشار هذا النوع من الاقتصاد.
ويضيف: لاشك أن النمو السكاني وبالتالي نمو قوة العمل بمعدلات تفوق قدرة الاقتصاد على خلق فرص عمل جديدة كان أحد العوامل الأساسية لنمو القطاع غير المنظم.
برامج فقدت مصداقيتها
قبل الحرب، كان القطاع غير المنظم يشكل حسب التقديرات الرسمية أكثر من 46% من حجم النشاط الاقتصادي الوطني، بحسب ما يؤكده الدكتور حزوري، كما أنه يستوعب حوالي 43% من قوة العمل، ويساهم بأكثر من 35% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، أما الآن وبعد أكثر من 10 سنوات من الحرب وما نتج عنها، من تدمير وانتقال عمالة وهجرة وفقدان للكثير من المواد الأساسية وانتشار المواد المهربة، يعتقد حزوري أن النسبة أصبحت أكبر من ذلك بكثير.
لذلك يرى أن جزءاً كبيراً من النشاط الاقتصادي خارج حسابات الدخل القومي، وخارج إطار خطط التنمية، وخارج إطارات السياسات والبرامج الحكومية، وبالتالي فإن هذه الخطط والبرامج فقدت الكثير من مصداقيتها وفقدت قدرتها على حل المشاكل الاقتصادية والكلام للدكتور حزوري.
أما الباحثة الاقتصادية الدكتورة رشا سيروب فترى أنه لا يوجد أرقام أو دراسات تكشف عن نسبة اقتصاد الظل من الناتج المحلي الإجمالي، لكن باعتقادها أنه تجاوز 100% مستندة في ذلك على الفجوة بين وسطي الدخل ووسطي الإنفاق.
هل يمكن تنظيم اقتصاد الظل؟
تقف الحرب وتداعياتها عقبة أساسية أمام تنظيم هذا القطاع، وبحسب ما يرى الدكتور رامي زيدان فإنه من الصعب تنظيمه، ولكن توجد توصيات يمكن العمل بها عند انتهاء الحرب وهي رفع مستوى الدخول ومقابلة عمال اقتصاد الظل ومحاورتهم لتحديد متطلباتهم والسعي للحد من الهجرة من الريف إلى المدينة إضافة إلى تحسين جودة التعليم ومكافحة الفساد الإداري.
وتوافقه الرأي الدكتورة سيروب التي ترى أن اقتصاد الظل مثله مثل الفساد لا يمكن إلغاءه نهائياً، فهو نتاج سلوك بشري لا يمكن السيطرة عليه بالمطلق، وفي ظل الظروف الراهنة التي يقبع أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر وفي ظل غياب شبكات الضمان الاجتماعي يصبح من الصعوبة ضبط اقتصاد الظل كونه الملاذ الوحيد لضمان معيشة المواطن، لكن لا يعني ذلك أنه لا يمكن تخفيضه.
بناء الثقة “المفقودة”
وكي تتمكن الدولة من تخفيضه، تؤكد سيروب على ضرورة أن تدرس وتصنف اقتصاد الظل بناء على أسباب انتشاره، ومن ثم تخلق أدواتها وتسن إجراءاتها التي تسعى من خلالها إلى الحد منه، وفي مقدمة هذه الإجراءات بناء الثقة “المفقودة” بين الحكومة والمواطن، وتشير إلى أي إجراء دون الثقة لن يجدي نفعاً، علماً أن خلق الثقة في ظل تراكمات الأخطاء السابقة قد يستغرق وقتاً طويلاً.
ولاحقاً لبناء الثقة، يمكن اتخاذ مجموعة من الإجراءات المتزامنة والتي تعمل على التوازي،وتجمل سيروب أهمها في التوعية بضرورة التصريح عن الأنشطة الخفية “وهنا تتحدث عن الاقتصاد القانوني لكنه مخفي عن السجلات الحكومية” مع التأكيد أنه لأغراض إحصائية فقط، دون تحميله أي تكلفة ناتجة عن التسجيل والترخيص، وألا يستعمل هذا التصريح لاحقاً لأي غرض كان سواء مالي أو غيره.
أيضا فرض عقوبات صارمة تكون رادعة، بحيث أن المواطن، يختار التصريح بسبب ارتفاع التكلفة والمخاطر التي سيتحملها في حال عدم الإجهار، وذلك بالتوازي مع رقمنة التعاملات الاقتصادية، التي يمكن أن تكشف عن العديد من الأنشطة المستورة، والتي لا يرغب ولن يقوم أصحابها بالكشف عنها مهما حصلوا على حوافز، وأخيراً منح مزايا لكل من يصرح عن نشاطه المخفي، على سبيل المثال لا الحصر.
توفير بيانات
وتوضح سيروب أهمية هذا الإجراء، في توفير بيانات وأرقام أقرب للواقع، تمكّن الحكومة من إصدار قرارات سليمة “في حال كانت تعتمد الرقم الإحصائي في رسم السياسات”، وكل ما يصدر من قرارات اقتصادية غير مبنية على أرقام دقيقة، ستؤدي إلى نتائج عكسية أو في الحد الأدنى لن تكون ذات أثر، وهو ما ينعكس سلباً على الثقة في القرارات الحكومية ومصداقيتها.
بالتالي سيسهم في زيادة معدلات النمو الاقتصادي وخفض معدلات البطالة، بسبب إدراج هذه الأنشطة في الحسابات القومية، بحسب ماترى سيروب، ثم تأتي المرحلة الثانية، وهي منح هذه الأنشطة مهلة زمنية تحدد بناء على دراسة التغيرات الحاصلة نتيجة الخطوات السابقة.
البيئة الأنسب للفساد
من أهم القضايا صعوبة وخطورة وإلحاح ببعض اقتصاديات العالم الثالث هي تقليص اقتصاد الظل وتحويله إلى اقتصاد نظامي حقيقي، من وجهة نظر الخبير الاقتصادي الدكتور رازي مُحي الدين فهو البيئة الأنسب للفساد وغسل الأموال والثراء الفاحش والمحسوبية وطرد الكفاءات وهروب الأموال.
لذلك يقول محي الدين: إن آليات التحول يجب آن تكون مدروسة ودقيقة وحساسة ومختلفة جذرياً من جهة عن أسباب الوصول إلى اقتصاد الظل، بمعنى لا تصلح الطرق التي أدت لتناميه بمعالجته وخاصة من منع وضرائب واستثناءات..
دمج الاقتصاديين
ويعدد الدكتور مُحي الدين أهم الطرق للإصلاح الهيكلي ودمج اقتصاد الظل بالاقتصاد الحقيقي من إلغاء سياسة المنع واستبدالها بسياسة الضبط فأي عملية منع لأي سلعة أو خدمة هي باب كبير لاقتصاد الظل والفساد والتهريب، ونستعيض عنها برسوم الاستيراد والجمارك والضرائب وبعض القيود والضوابط الكمية والربحية والتصديرية، وإلغاء سياسة الجباية والتحول لسياسة الشراكة، بتخفيض الضرائب والرسوم العالية وتوحيدها وربط الضرائب بالخدمات والوظائف الحكومية.
كما يجب أن يكون الجميع تحت القانون، إضافة إلى تحسين الرواتب والأجور والحوافز، والاعتماد على الكفاءات وليس المحسوبيات.
ويختم الدكتور مُحي الدين: إن أي خطوة لتوجيه اقتصاد الظل ودمجه وتنظيمه لكي يمارس دوره بشكل صحي ستؤدي حتماً لدعم الصناعة وتخفيض المضاربة على الليرة وانخفاض التهريب وزيادة الصادرات وجذب الاستثمارات وتخفيض ظاهرة هجرة العقول وهروب الأموال.