أغنية لذهب الزمان الضايع
سلوى عباس
عاصي الرحباني فنان شكّلته الطبيعة بكثير من ياسمينها الأبيض والزجاج، قلّمته كشجرة، وصقلته كما الماس، أخذ من نفسه كلّ ملامحه، ومن قلبه جمع لغته، وفي كفّه حمل حلمه، لا يلوي إلا على فن، إذ يقول: “الفن واسع جداً والوقت محدود.. الفن كبير والوقت صغير، والفنان الحقيقي هو المخلص والإنسان الذي يحاول أن يعبّر عن حاله بأمانة وبإخلاص”، ففتش هو وشقيقه منصور عبر رحلتهما الطويلة عن المعاني التي تتضمنها ثلاثية الحياة الأرض والحب والمصير الإنساني في أصداف البحار ورمال الشواطئ، وهبطا على سطح القمر ومجرات السماء البعيدة إلى أن رسيا بقاربهما في مرفأ صوت فيروز التي تدفقت حنجرتها بجداول وأنهار من الدرر التي نقشت في وجدان المواطن العربي، والتي وصفها عاصي بأنها: “الصوت الإنساني الذي يستطيع أن يحمل كافة الأفكار التي كانا يحبان أن يحمّلاها لفنهما”.
رحل عاصي في 21 حزيران 1986، الذي صادف أيضاً يوم عيد الموسيقا، وأول أيام الصيف، وعيد الأب، وكان دائماً مشدوداً إلى عالم آخر، إلى وطن يرسمه أجمل من كل الأوطان، فكان يحب “الصعب” الذي يخلق الجديد والبساطة، فأعطى الفن المميّز، إذ لم يكن يؤمن أن الكاتب ينزل عليه الوحي، بل النبوغ والتقنية هما الأساس، ويكفي الكاتب الجو الهادئ ليكتب، وفي أي مكان، فخلق أسلوباً فريداً ومميزاً للمسرح الموسيقي الذي يجمع بين الأوبرا والشعر والفولكلور والثقافة، فعزف لنا الحب على لسان حبيبته وسيدة ألحانه، وهو “الذي شجعنا على أن نذهب لمواعيدنا، فذهبنا، وهو الذي علّمنا أن نكتب على ضفائر حبيباتنا، فكتبنا”، هكذا قال نزار عن عاصي الرحباني في قصيدة كتبها عنه بعنوان “إلى عاصي”.. ومما كتب نزار: “هو آخر الأشياء الجميلة في حياتنا وآخر قصيدة، قبل أن ندخل في الأمّي، وآخر حبة قمح قبل أن ندخل في زمن اليباس، وآخر قمر قبل أن تهاجمنا العتمة، وآخر حمامة تحطّ على أكتافنا قبل زمن الخراب، وآخر الماء قبل أن تشتعل الحرائق في ثيابنا، وآخر الطفولة قبل أن تسرق الحرب طفولتنا”.
كان عاصي الرحباني إرادة جبّارة نفختْ روحها القرويّة في العالم العربي كلّه، زارعةً فيه على أجنحة صوت فيروز الاستثنائي شكلاً جديداً من أشكال الشغف، ففي مسرحية “المحطة” قال عاصي: “الانتظار خلق المحطة وشوق السفر جاب الترين، وفي النهاية جاء الترين”، مما يؤكد على إيمان الرحابنة برسالتهم وأن أحلامهم التي تجسّد الحقيقة التي لا يمكن أن تتحقق بدون الحلم بها.
وتتضح ميزات المسرح الرحباني الإبداعي في اكتمال موهبة الخلق لديهما، إذ يكمل اللحن المنسجم جمال الكلمة الشعرية، فكانت سمة مسرحهما الغنائي في البداية هي الأسطورة الشعرية، ومنذ مسرحية “الشخص” أخذت الفكاهة السياسية مكانها في أعمالهما، فالمسرح الرحباني تجسيد للكلمة الضوء، المحبة، الموسيقا، وهذا كله له وضع خاص في المسرح الرحباني، له استقلاليته، فالرحبانيان ينوّعان في مسرحهما لأن الحياة متنوعة، وبالموسيقا استطاعا أن يؤسّسا مدرسة لبنانية قائمة بذاتها، فقد كانت الأغنية قبلهما سراباً والموسيقا فوضى، وربما يكمن سرّ تجاوب الجمهور مع المسرح الغنائي الرحباني مردّه بالدرجة الأولى إلى التصاق المغناة ككل وكأجزاء بواقع المشاهد الذي يحضرها، تعبّر عما يجول في خاطره، وتنفس عن قلقه وتضحكه على نفسه أحياناً وعلى أشياء يتمنى أن يضحك لها.
عاصي الرحباني المشوار الذي انكسر في عز العطاء والحلم، قال في مسرحية “ناس من ورق” على لسان البطلة ماريا إنه لا يوجد نجاح دائم، لأن “العيون قاسية ومحبة الناس مثل رف السنونو بيكونوا هون وفجأة بيروحوا”، لكن تاج النجاح لم يفارق جبين عاصي الرحباني حتى بعد وفاته، وبقي أغنية لذهب الزمان الضايع.