“الهروب إلى حافتي الحلم”.. وغياب الصراع الدرامي
جوهر أية رواية يكمن في قوة الصراع الدرامي الذي يدور في داخلها وتنوعه، فهو يعطيها العمق في الطرح، والتشويق في السرد، وإدارة هذا الصراع تتطلب من الراوي فكراً متقداً وثقافة متنوعة وشاملة تسهل عليه عملية نظم إيقاع السرد وتطويره إلى جانب التمتع بالجلد الضروري لاختيار مرحلة النضج النهائي للنص، فقد انتظر تولستوي عشر سنوات قبل دفع رواية “الحرب والسلام” إلى المطبعة على سبيل المثال، في حين نرى روائيين حالياً يخرجون بنص روائي كل عام وأحياناً، أقل من عام.
هذا الأنموذج نراه في النص الروائي الصادر حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب بعنوان “الهروب إلى حافتي الحلم”، للأديب السوري علي أحمد العبد الله الذي رحل قبل أن يرى نصه بين يدي القراء.
في هذا النص السردي نحن أمام حكاية بسيطة محدودة الصراع قليلة الشخوص، يقود السرد فيها ضمير الغائب العارف بسيرة بطلها، سلمان الحسن، الذي تفوق على أقرانه في نيل شهادة الثانوية العامة التي أهلته لبعثة دراسية إلى الاتحاد السوفيتي لنيل شهادة في الطب، لكنه غرق في دهاليز الفكر الشيوعي ليعود مطروداً خالي الوفاض باحثاً عن “حلم جديد بدلاً من الحلم الذي ضيعه في شوارع موسكو .. “في العام الذي كان العالم ينظر فيه إلى الشيوعية وهي تنهار، كان أبوك يسكر بمبادئها ويطمح أن تحلّ مشاكلنا حتى دهمته الخيبة ورمت به يتسكع في أزقة روسيا” (ص١٢).
هذه الشخصية المحورية تدور في فلكها شخصيتان أخريان، هما الابن علاء طالب الحقوق، وخديجة الزوجة، وما تبقى من شخصيات فهي بنت اللحظة ينتهي دورها مع انقضاء لحظة مرورها مع شخصية علاء المتنقلة التي تقودنا بين الريف والعاصمة، المكان المحصور في الرواية بحي مخيم اليرموك، ومحيطه المؤدي إلى كلية الحقوق “باب الجابية، سوق النحاسين، باب مصلى، الزاهرة القديمة..”.
الصراع الوحيد الظاهر في الرواية على وجل هو مع الطبيعة، حيث يسعى سلمان الحسن بعد فشله في تحقيق حلمه بدراسة الطب إلى تغيير أسلوب الزراعة في قريته التي تعتمد على ما تجود به السماء من مطر لإرواء حقول الشعير دون أن يسعى لتحدي الطبيعة، وتغيير قوانينها المفروضة عليهم عندما قرر زراعة أرضه بشتلات الزيتون، وحفر بئر في أرضه لإروائها.. هذا الحلم الذي اصطدم باستهجان وسخرية أهل القرية كان نقطة تحول مصيري في حياة القرية ومحيطها الذي تحول فيما بعد عن زراعة الشعير، محدود المردود، إلى الزيتون الذي جلب الخير الوفير للجميع، وهكذا نجح بطل الرواية في التغلب على الطبيعة وتحقيق حلمه.. “حشد من الوجوه تتطلع باندهاش وهي تكتشف ضحل فكر الفلاح الذي يقبع منتظراً المطر ليحصل على موسم شعير رديء، فبدا لهم سلمان كتمثال ضخم، رغم نحول جسده..”.
في الرواية هناك نوع من الاستسهال في فهم مقومات حياة أسرة سلمان الحسن: من أين تنفق على ضروريات الحياة، وعلى ولدها الذي يستأجر غرفة في مخيم اليرموك، ويدرس في الجامعة، طالما لا يعمل رب الأسرة غير أن يصعد يومياً السلم الخشبي المؤدي إلى سطح منزلهم الطيني القديم ليجلس في عرزاله يعد النجوم، ويراجع خيبات ماضيه المتلاحقة، وكيف استطاعت زوجته، خديجة، أن تحمله عندما أغمى عليه، وهو على السطح، وتنزل به السلم الخشبي وتلقيه على السرير في غرفته، وهي مهمة يعجز عن فعلها أعتى الرجال.. “فانكبت نحوه بعنف وأحاطته بذراعيها، ولح وجهها الجميل الذعر، وبقوة جنونية هبطت به مرتاعة…” (ص٩).
حتى علاقة الأب مع الابن الذي بدا مختلفاً عنه فكرياً، رغم عدم تطرق الرواية إلى هذا الاختلاف، بدت علاقة مسالمة غير متواترة لا يشوبها أي صراع بين أجيال متفاوتة الرؤية والفكر نحو الواقع، حيث أخذ علاء يحتال على أبو أمين رجل الأعمال الذي أحبه وأمنه على ورشة البناء التي يمتلكها. لكن علاء بدأ أولاً بفرض عمولة على موردي مواد البناء للمشروع يضعها في جيبه، لتتطور الأمور ويسرق رواتب العمال بكل بساطة، وسذاجة، جهاراً نهاراً، وأمام الجميع، كلوثة جنون تقوده إلى السجن. هذا التصرف يمكن أن يستشف القارئ من مخالفته لمبادئ والده رغم عدم التطرق إلى ذلك لا تلميحاً ولا تصريحاً بسبب افتقار الرواية للديالوج الحواري والحبكة المكثفة والمعمقة التي تغوص في خبايا النفس واستخراج ما يمور في داخلها من صراعات فكرية واجتماعية ونفسية، لاسيما وأن الزمن فيها يعود بنا إلى النصف الثاني من القرن الماضي، كما يبدو، أي تحولات فكرية على صعيد الأجيال شهدتها تلك المرحلة وأهملها الروائي،ليدور في فلك حوارات مقتضبة وسرد عام وتحركات اعتيادية بسيطة لا تحتمل التمعن والتأويل، وتفتقر إلى الإثارة والتشويق. ووصف مكرر يخلو من الاستعراض اللغوي المتين.
وهذا يعود إلى بناء شخصيات غير ناضجة وليست مكتملة الملامح تمتلك القارئ وتفرض عليه التعاطف معها وتبرير الحالة النفسية والاجتماعية التي حاول الكاتب المرور عليها..
شخصيات مستقلة بذاتها تدور في فلك ذاتها لا تكامل بنيويا يحتم اجتماعها، ولا صراعا دراميا يبعث الروح في عوالمها الفقيرة بالشحن الانفعالي، والتصاعد الدرامي، حاول الكاتب رسم ملامحها عبر محاكاة لتجربة ذاتية قد تلتقي مع الكثير من التجارب الحياتية لاسيما بالنسبة لشخصية علاء التي تحاكي الكثير من تجارب طلبة الجامعة الذين قدموا من الريف لا يملكون قوت يومهم، وحتى شخصية سلمان التي فشلت في دراسة الطب وعادت من روسيا مهزومة منكسرة بسبب سوء فهم الفارق الاجتماعي والسياسي بين واقع تربى عليه وواقع أخذ بسيكولوجيتة.
“الهروب إلى حافتي الحلم” واحدة من روايات عديدة تصدرها الهيئة العامة للكتاب سنوياً، وتفتقر للبعد الفكري العميق والصراع الدرامي المحبوك باحترافية عالية وثقافة واسعة وتجديد بنيوي يأخذ القارئ إلى فضاءات وعوالم مدهشة.
آصف إبراهيم