كلمة الضوء السريّة
غالية خوجة
نستمدّ قوتنا من كلمة “إقرأ” كونها الكلمة السرية للوعي التي تفتح لنا آفاق المعرفة بمختلف مجالاتها، لتكون منارة في عقولنا، تهدي ذواتنا، وتجذب الآخرين إلى أشعتها، فتجعلها بوصلة لا مرئية لا تخطئ وهي تشير إلى جهة النور.
ولأن السلاح المعاصر والمستقبلي هو المعرفة، فإن حرب العقول لا حرب النجوم هي الحرب المستقبلية، ومن امتلك أسرار المعرفة، امتلك أسرار الحياة لا الحرب، وساهم في ترقية البشرية إلى مقام الإنسانية، لكن، ما أصعب أن يتأنسن الإنسان؟!.
ولأنه لا مستحيل، فبإمكان الإنسان أن يقف أمام مرايا وعيه ونفسه وروحه ليكتشف عيوبه ويعالجها بأنوار المعرفة. ومن امتلك هذه المفاتيح السرية والسحرية التي لن نجدها في الفضاء الإلكتروني مهما تطور، لأنها موجودة في الذات لمن يرغب ويحب ويريد ضمن تسلسلية الرغبة والمحبة والإرادة.
لذلك، لن تهزم شعوبنا العربية مهما مرّ عليها من ظلمات ما دامت متمسّكة بالمعرفة المتطورة والمستدامة، وإلى هذا تسعى المكتبات في العالم أجمع، وإليها سعت أول المكتبات القديمة في وطننا سورية، ومن لا يذكر مكتبة أوغاريت وإيبلا؟ ومن ينسى كيف تمحورت أساطير وخرافات التراث الإنساني حول امتلاك “ألواح القدر” للسيطرة على العالم؟ ونتوقع أنه لا فرق بين ما يقصده التراث بألواح القدر عن ألواح المعرفة ومفاتيحها السرية، لكن الفرق يجب أن يكمن، وضمن مفاهيم المعرفة المؤنسنة، أن تكون الغاية والوسيلة والهدف من هذه المعرفة هي بناء الإنسان والأرض لا الحرب والقتل والتدمير والامتلاك والتسلط.
ولأن بناء الإنسان هو محور بناء الزمان والمكان، كانت سورية أول من كتب وقرأ بالأبجدية الحروفية والموسيقية، ولذلك، عانت وتعاني، من جهل البرابرة ووحشيتهم على مدى العصور، وكذا، حال الأمة القارئة التي رمى الغزاة مخطوطاتها وكتبها ومكتباتها في النار والماء، ويشهد نهر دجلة كيف أصبح لونه بلون الحبر، ويشهد العالم على الغزو الظلامي الأخير على سورية وآثارها وعقولها، وهو المنهج التدميري ذاته الذي نال من العراق وقبلها فلسطين.
ولمزيد من التحدي والانتصار، كان لا بدّ من التشبّث بالمعرفة المضيئة بمختلف مجالاتها ووسائلها، ولذلك، اهتمت الشعوب الحضارية بالكتاب والمكتبة، واهتم القادة بإنشاء المكتبات العامة الواقعية والافتراضية، كما خصّصت الوزارات في الدول المعاصرة وزارة للثقافة، لأهميتها في مفاصل وتفاصيل الحياة الفردية والمجتمعية.
وبمشهد بانورامي متسارع للمكتبات، بإمكاننا أن نلفت إلى مكتبة الأسد الوطنية بدمشق وأهميتها في الحياة العامة، وما تتضمنه من كتب ومؤلفات ومراجع ومخطوطات وكنوز تراثية ومعرفية، إضافة لأنشطتها الثقافية والفنية المستمرة، وما قدمته من عمرها الممتد منذ عام 1984، والملفت، طريقة بنائها الهندسي المعماري الباعث على تناغمات الفراغ والكلمة وما بينهما من إضاءة تقدّم الطمأنينة والتأمل والحرية الداخلية والفكرية والبحثية والعلمية والمعرفية.
بينما تضيء مكتبة الإسكندرية القديمة والجديدة، العقول بطريقتها المفهرسة ومضمونها وأجنحتها وموقعها الإلكتروني الذي يفاجئ أي كاتب معاصر بحضور كتبه في هذه المكتبة التي أسعدتني وغيري بوجود بعض كتبي فيها، والملفت، شكلها القادم من الفضاء.
بينما تفاجئنا مكتبة محمد بن راشد بدبي بحضورها العصري وأجنحتها وشكلها المتخذ لشكل كتاب مفتوح تتفهرس فيه تنويعات معرفية تمتد لقرون وأزمنة ومخطوطات فريدة ونادرة، وتعلن، منذ افتتاحها، إهداءها 3 ملايين كتاب لمدارس الوطن العربي.
ما أجمل أن نتبادل إهداءات الكتب، خصوصاً، في المكتبات المحلية الجامعية والمدرسية ومكتبات الأحياء ومكتبات البيوت، وأن نحافظ على سر كلمة “إقرأ” التي لا تعني اقتناء الكتب والمكتبة كأثاث مكاني، بل لتكون مفاهيمها ودلالاتها مفتوحة على وعي منفتح.