إضاءة على كتاب “لماذا الفن”؟
البعث الأسبوعية – رائد خليل
ما الذي دفع الإنسان القديم لتزيين السيوف والخناجر وزخرفتها مع أنها أدوات قتل وشر؟ لماذا يسمع الإنسان الموسيقا؟ ولماذا يحنّ في أكثر الأحايين إلى معزوفة معينة بالذات؟ أو للحن معين ما، ثم يقتنيه، ويسجله، ليسمعه متى يشاء، وربما يكون حفظه، ويدندن به؟ لماذا يبحث القارئ عن قصيدة ما مفقودة، أو رواية، أو قصة، أو مسرحية من دون غيرها، سمع عنها أو قرأ شيئاً بخصوصها؟
جملة أسئلة إشكالية عميقة الدلالات، إذ يأخذنا الكاتب مالك صقور في كتابه “لماذا الفن؟” إلى التساؤل المشروع عن جوهر الفن ومتعته، وإلى نزوع الإنسان إلى الأكمل والأحسن، إلى الفن الذي كان الإنسان وسيبقى صانعه ومحوره وغايته، ويسمو به، لأنه يطهّر الروح ويحرره من الغرائز بحسب أرسطو.
بداية الفن..
يسلّط الكتاب الضوء على نظريتين بخصوص نشوء الفن، فأولهما هي نظرية الفلسفة المثالية الغربية للفن وأصوله، التي زعمت أنّ أصل الفن هو اللعب كما يقول كانط وشيلر.. وأنه- أي الفن- لا يأتي إلا بالمتعة الجمالية، مثلما أن اللعب لاغاية له سوى اللعب.. وهذا ما أكده شيلر في قوله إنّ الفن ينبع من نزوع الإنسان إلى اللعب، ويعبّر عن الرغبة في الانعتاق من الواجب والضرورة، ويقيم ملكوت الحرية والطمأنينة والصفاء. وأما النظرية المادية (الاشتراكية) فتعارض هذا الرأي، فيقول عالم الجمال الروسي تشرنيشفسكي في القرن التاسع عشر إنّ العمل هو أصل الفن.
أبحاث عديدة مختلفة وآراء متضاربة حول النشوء، وقد صنّف مؤرخو الفن أطوار الإنسان وفنونه إلى ما قدّمه في العصور الحجرية والحديدية والبرونزية. ويذكر الكاتب مثالاً مهماً عندما اخترعوا الآلة البخارية، صاح دوستويفسكي: “إننا نعيش الآن في عصر البخار”.
وهنا، يأخذنا الكاتب إلى مقارباتٍ وأقوالٍ واستنادٍ عن حسن الجمال، فيذكر أيضاً مثالاً عن الطير الذكر الذي ينشر بزهو ريشه البهيج وألوانه الأخاذة أمام الأنثى، بينما لا تقوم الطيور الأخرى الأقل حظاً منه بأي عرضٍ من ذلك القبيل، وهنا نقرّ حقاً بأن الإناث يعجبن بجمال الذكر.
إذن، الحديث الجمالي يأخذنا إلى سؤال مصير الفن وارتباطه بالبشرية، فالتقاويم والسجلات والأبحاث لا تعطينا فهماً عميقاً لتاريخنا البشري، على عكس ما خلفته لنا الطبيعة من أحجار قديمة ما زالت تحتفظ بدفء الشمس والخيال السحري.
تطور الفن
بعد سلسلة طويلة ومتعاقبة من الفن قبل التاريخ مروراً بالعصر الحجري والحضارات المتعاقبة، سارت فنون الحضارات، وقد حملت بذورها لتزرعها في أرض خصبة هيأت لانبثاق المعجزة الإغريقية التي حفلت بالملاحم والمسارح وتبلور علم الجمال فيها.
ويقول الكاتب: من الصعب تحديد السبب الذي يجعل من ذلك الفن مصدراً للمتعة الجمالية حتى اليوم، بل يجعله من بعض الوجوه معياراً وأنموذجاً يصعب الوصول إليه. ويطرح سؤالاً مهماً عن طفولة اجتماعية للإنسانية.
وسؤال عن الذي يدفع الإنسان إلى تحرّي الجودة التي لا تفسّر ولا تعرف أساساً، على مبدأ إعلاء كل نظرية الى مستوى جودة معين.
ويتحدث صقور عن المصطلحات الأولى لعلم الجمال التي ظهرت عند الإغريق القدماء، فقد استخدم هوميروس التعبيرات الجمالية مثل الرائع والجميل والمتناغم والمتناسق.
وأيضا يعرّج الكاتب على ظهور الجمال في الفلسفة القديمة، اذ كان الماديون هم أول من وضعوا التربة الصالحة لخلق حالة جديدة مغايرة. وجدير بالذكر أن فيثاغورس وتلاميذه بحثوا عن الأسس الموضوعية للظواهر الجمالية. ولقد اهتم فيثاغورس في تفسير دور الفن والموسيقا في الشعور الإنساني.
وفي أبواب أخرى، يفتح الكاتب لنا صفحات الفلاسفة والآراء التي نحتوها بأزاميل جمالية، فسقراط يرى أنه من الصعب أن تجد إنساناً كاملاً من الناحية الجمالية، أي لا تشوب جماله أية شائبة. فأنت “عندما ترسم رجلاً جميلاً فإنك تأخذ من عدد من الناس أجمل ما عندهم، وتجمعه في رسمك لتحصل على الإنسان الذي تستطيع أنت أن تسميه جميلاً”.
ويلخص الكاتب نظرة سقراط إلى علم الجمال بالعلاقة العضوية بين ما هو أخلاقي وما هو جميل. وفي رأيه إن الإنسان المثالي هو الإنسان الذي يجمع بين الجسم الرائع والأخلاق الرائعة، فالإنسان الفاضل يجب أن يكون سليم العقل لكي يعرف ماهي الفضيلة. ولقد طوّر سقراط الأفكار الجماليةـ وكان الإنسان هو موضوع الفن وهدفه.
وعن أفلاطون، يذهب الحديث إلى عالم الأفكار (المُثل) الأبدي الأزلي الذي لا يتغير، وإلى الجمال الذي رأى أنه صفة تتجلى في الأشياء كافة، بنسب متفاوتة، فيقول إن كل شيء زمني في هذا العالم هو صورة لمثال أبدي موجود في عقل الآلهة، وأنا وأنت لسنا سوى صور بشرية للمثال الإلهي.
ولقد طبّق فكرته على تفسيره للفن فيقول: “إن الفنان ما هو إلا ناسخ لا يفهم المعنى الحقيقي للوجود الرائع، ولكنه يخلق عملاً فنياً، فهو يحاكي العالم المحسوس, ولكن الأخير ما هو سوى نسخة لنسخة انعكاس الانعكاس. والفنان كثيراً ما يعبّر عن أشياء مخالفة لمفهوم الرائع”.
أما أرسطو، فيرى الكاتب أنّ الأجناس الفنية تجددت في عصر أرسطو، وبلغ الفن درجات عالية من التطور. واختلف هذا الفيلسوف عن أقرانه في قراءة مفهوم الرائع، إذ قال إنّ أهم معايير الرائع هو الترتيب والتناسب والوضوح، وإنّ أسمى تعبير عن الواقع يتمثل في المخلوقات الحية، خاصة الإنسان. ويوضح أرسطو الفرق بين الرائع والخيّر، فالخيّر يعبّر عنه دائماً بالأفعال، ولكن الرائع، يوجد أحياناً في الأشياء الجامدة غير المتحركة.
ويرى أرسطو أنّ الفن هو شيء متأصل في ميل الإنسان للمحاكاة، لأن الإنسان يرث التقليد من الطفولة.
ويرى الكاتب أن أرسطو ربط بين الفن ونشاط الناس الأخلاقي، لأن الفن يسمو بالإنسان ويطهر روحه ويحرره من الغرائز.
أما الأبيقورية فقد رأت أن الفن لا يسبب اللذة فقط، بل هو وسيلة لتعميم المعرفة بطبيعة الأشياء، وأن الفن يؤثر في الروح، ويثير شعور الرضا أو المعاناة دون تأمل أو تفكير أو تجربة، ويخضع الإنسان لتأثيره دون أن يعدّ أن الذي يقال هو حقيقة أو اختلاف.
وينتقل الكاتب ليسلّط الضوء على كتاب “ما هو الفن؟”، للكاتب الشهير ليف تولستوي، الذي يوجه فيه نقداً لاذعاً للفن المزيف المنحط في أوروبا وسواها. وحتى أن برناردشو قيّم الكتاب وقال إنّ كتاب تولستوي يعدّ مصيدة للحمقى القادرين على الانقضاض على الأخطاء الخاصة والصغيرة متجاوزين القيم الإيجابية.
ومن وجهة نظر تولستوي أنّ على العلم والفن أن يبرهنا على عدم جدوى الحروب، وتخليص البشرية من ويلاتها. والفن أمر عظيم، وهو وسيلة لحياة أفضل، وهو القادر على تحويل معارف الناس المنطقية إلى أحاسيس.
آراء عديدة حفل بها الكتاب ضمن أطياف تأخذنا الى فتح بوابات التأمل والتعرف، وإلى قراءة وظائف الفن في التنوير الذي يخلق منظومة وعي معرفية من خلال الاتصال والتلاقي. اذ يبرز الفن كوسيلة لنقل تطلعات الناس وعقائدهم وأحاسيسهم، وهذا يوسع دائرة الروابط كافة، إضافة إلى وظائفه التربوية والجمالية والثقافية والإبداعية التي يوقظ فيها روح الانسان، ويحولها تحويلاً خلاقاً في خدمة الجميع.
أما لماذا الفن؟ فيستشهد الكاتب بمقولة ميخائيل نعيمة الذي ذهب بعيداً في فهم الفن: “إن أجمل الفن ليس في المتاحف ومحترفات الفانين، بل في حياة موحدة الغاية والإرادة، في قلبها إيمان لا يتزعزع بهدف الإنسان الأسمى”.