البنك المركزي الأوروبي في مأزق
ريا خوري
يشهد العالم تغييراً جوهرياً في تعاملاته المالية نتيجة الصراعات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتلاحقة، وهذا ما دفع العديد من بنوك العالم للقيام بإجراءات وعمليات حسابية مالية تتماشى مع الواقع المفروض، فقد بدأ التزام البنك المركزي الأوروبي بربط منطقة اليورو بالتراجع الملحوظ أمام تطبيع السياسات النقدية، وإفساح المجال واسعاً للتضخم، محذراً من أن شبح التضخم المتزايد أصبح مرتفعاً بشكل غير مقبول وغير اعتيادي، وسيظل أعلى من هدف اثنين بالمئة على مدى ثلاث سنوات على أقل تقدير.
لقد أعلن البنك المركزي الأوروبي منذ فترة ليست بعيدة عن أول ارتفاع في سعر الفائدة منذ أكثر من عشر سنوات، وذلك بعد الانتهاء الكامل للعمليات الجديدة لبرنامج شراء السندات طويلة الأمد اعتباراً من الأول من شهر تموز القادم.
وكان البنك المركزي الأوروبي قد أكد أنه سينهي التيسير الكمي، ثم يبدأ برفع أسعار الفائدة بمقدار خمس وعشرين نقطة أساس في الحادي والعشرين من شهر تموز أيضاً، يلي ذلك ارتفاع إضافي في الثامن من شهر أيلول المقبل إذا اقتضى الأمر، ومن ثم قد يتدرج نحو خطوة أكبر وأسرع ما لم تتحسن توقعات التضخم حتى ذلك الوقت.
إن الارتفاع السريع في التضخم النقدي كان مدفوعاً في البداية بأسعار الطاقة من نفط وغاز وفحم حجري وأهم المواد الغذائية الضرورية، فقد خرجت جميع الاقتصادات العالمية من عمليات الإغلاق الشديد جرّاء تفشي فيروس كوفيد ١٩، لكن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا ساهمت في تسريع هذه الاتجاهات بعد أن انقلب السحر على الساحر، فقد ارتدّت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها على روسيا سلباً على اقتصاداتها وتعاملاتها التجارية والمالية .
وعلى الرغم من أن رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاجارد، شددت مراراً على أن المؤسسة المالية الأوروبية ملتزمة بتجنب ما يسمى بتجزئة تكاليف الاقتراض بين العديد من الدول في العالم، وجميع أعضاء منطقة اليورو مع انتهاء شراء السندات المالية، فإن الأسواق المالية لم تكن على ثقة تامة بذلك، ويُشكك العديد من المستثمرين في أن نهج كريستين لاجارد المتطور بصنع سياسات البنك المركزي الأوروبي، والذي يبدو أنه يعطي صوتاً أكبر للبنوك المركزية الوطنية والمحلية، والبلدان ذات الموقف النقدي الأكثر تشدداً وتقيّداً بالقوانين الاقتصادية الصارمة، سيسمح بالنوع نفسه من الالتزام المفتوح لكبح تكاليف الديون الهائلة.
ويرى العديد من المتخصصين في مجال البنوك العالمية أن رفع البنك المركزي الأوروبي لأسعار الفائدة ليس الطريقة الصحيحة لكبح ارتفاع الأسعار وتفاقمها، وأن البنوك المركزية العالمية ترد على التضخم بأدوات وقوانين وأساليب خاطئة، وقد أعرب عدد من كبار الاقتصاديين العاملين في صندوق النقد الدولي عن قلقهم من أن البنك المركزي الأوروبي لا يملك بعد الأدوات والمناهج التي من شأنها إقناع المستثمرين بأن التجزئة أمر تحت السيطرة، ويفترض أن هذه ستكون مشكلة مستمرة حتى العامين القادمين.
ويعتقد هؤلاء الاقتصاديون أن نوع التشديد النقدي الذي من المرجح أن يحتاج إليه البنك المركزي الأوروبي لضبط التضخم النقدي كان أقل مما كان مطلوباً من قبل الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت أسواق العمل أكثر إحكاماً وصرامة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي يؤكد الاقتصاديون أنه لا ينبغي أن يُضعف تشديد البنك المركزي الأوروبي، من الناحية النظرية، القدرة على تحمّل الديون، مضيفين في الوقت ذاته أن مستثمري السندات المالية لايزالون بحاجة إلى آلية تقنعهم بذلك وتكون موثوقة، لأن الارتفاع الهائل في تكاليف الاقتراض طويل الأجل يمكن أن يغيّر مقاييس الاستدامة، ويخلق مشكلة ذاتية سيحتاج البنك المركزي الأوروبي في النهاية إلى معالجتها بالسرعة الممكنة، مع العلم أن البنك المركزي الأوروبي بعد الاجتماع الذي تم عقده في ٢٣/٦/٢٠٢٢ أكد على أن هناك أغلبية كبيرة من صانعي السياسة ضد الإعلان عن أداة جديدة لمكافحة تجزئة تكاليف الاقتراض بين أعضاء منطقة اليورو، وبشكل عام أعربت الشركات الاستثمارية عن عدم ارتياحها بشأن الإجماع المتطور داخل المجلس إذا عاد حديث التضخم النقدي إلى طاولة القمة، ويرى هؤلاء الاقتصاديون أن الخلاف والتردد قد يكونان مكلفين للغاية.