الشاعر أمير سماوي.. من برج صافيتا إلى بروج النجوى
رائد خليل
من قريته الطرطوسية (بشبطة) المتكئة على كتف الأماني، وامتداداً إلى جغرافية التفاصيل القلقة التي لا حدود لها سوى العقل والمتطلبات الشعرية، غرسَ الشاعر أمير سماوي (رجب علي) بذرة انشغاله الشعري بانفعال مغاير، وصولاً إلى ترويض الممكن بكل دلالاته وأبعاده، وجعل انشغاله عنواناً طبولوجياً دفاقاً يخاطب الوعي بمستوياته كافة، ويزيد غبطته ويحرك متعة إحساسه الجمالي بقوله الشعري البلاغي المفتوح على توهجات وجودية واستعمالات رمزية قصدية بكلام مخيّل يفرد صداه عالياً، ويأخذنا بانسياب إلى الحكمة وصراع النقائض في توجه شبه عمدي لأنسنة الأشياء وصهر الأحاسيس والقيم، ومتخذاً من مبدأ مزج الفكر بالعاطفة سبيلاً للوصول إلى الغاية الشعرية الأسمى في خلق مفاهيم ومؤاخاة البنية المعرفية والذائقة الجمالية المنشودة.
في ثمانينيات القرن الماضي، وفي أبراج العدم تحديداً، انطفأت كل منارات الطموح، ولم يبقَ سوى كفّيه في عصف الظلام، وافتتحوا من أجله شكوى..! فمن هذا الغلام العربي الذي تحدث عنهالشاعر؟
هذا الغلام وبعنفوان المدى، بنى أبراجه على تربة سليقته وصرخ وقال: كنوز السماء لي، ومنذ أشرعتُ على الأبراج راياتي وأنفاسي تسمو حتى استوت الآن على عرش اللهب.
ولكن الشاعر أمير سماوي ذهب بنا بعيداً حيث مفاتيح الأرض في جيوبه، ليقول لنا: لن أدع السؤال يعشش في أخاديد رغبتي، وهذه هي ذي سروج إجابتي.
وعن الحنين الذي يقض مضجعه وهو ابن ذاك الأب الإنسان الطيب الذي بنى أغلب بيوت قريته، يأخذنا إلى الأغاني التي ذابت أجنحتها على أفق حنينه حيث غسل أشجار روحه بتراب الفرح المستعار، واقتلع الوجوه من يأسها وأخرج الأرصفة عن طاعة الخُطا.
إذن، كم وجه طفل ضاع في الذكرى وضيع نسل ما بعد أبيه؟ سؤال يسرد لنا حكاية صور الماضي الأليف التي خانته، وأذابت صليل من يمحو التخوم ويصهر الكبوات.. هناك، غاصت جذوره في التراب، وفي السماء فاضت حياته.
ولكنْ، كما يرى “الأمير”، أن العودة إلى شاطئ من مرارة تلك الحياة مستحيل، ولن يحمل القلب كي ينحني في هواه المريب، فصحبته علمته تجارب عن صحوته في السديم.
وعن سقف الحزن في أبراجه، يرى أنّ سور أيامه يجيد اصطفاء همومه، وألفة دربه الوحشي تعتق أفراح من حوله. ويسأل: ماذا سأخفي بعد هذا المصير؟ فكل الأحلام محشوة ببريقي!
كثرت شهب الأماسي المحتضرة في نصوص أمير سماوي، فيرى أنه لا مفرّ من لقاء مع الليل وأشباح الذهول. ولماذا نسأل عن سماء تقطر الشهب على السمّار؟ وما حاجتنا للإفصاح عن سرّ العمر؟ لم السؤال عما مضى؟
ويرى أن صمت التأمل العميق هو مأوى صحوتنا وهو دليلنا الوحيد للوصول إلى جنان الحلم المعلق على إشراق حنيننا العالي.
مجموعة أفكار عن سر اللعنة، وهناك من يحاول أن يجبره على خلع أفكاره عن صحبتها، ويدعو القمر المطفأ لكي يعتصر تجاعيد وجهه.. ونعلم أنه استرخى ذات جرح في خضم انهياراته، فماذا قال للشفاه؟
يرى أن حلمه المبعثر سعيد باصطفاء المخالب له وقد غرس على ضمائر الماضي قبلات العواصف. ولكن يعود للحديث مع الليل ويشكو له همه وأنه عالق بمرارة الهذيان وقد ترك فضائح ماضيه المهزوز تتسلق نتوءات الصخور. ويخبرنا “سماوي” أنّ الدم هو واحة للهاث.
في أبراح الغربة ومروجها وعن أول صاعقة أورثته الحنين، يرى أن بين نشيج القرى والعواصم يغفو غبار الوصول، فارتسمت خطواته على جبهة الحلم هينمة وصخباً.. ويتذكر كيف ترك البيادر والوشوشات وجاء يناغي مرايا المدينة، وإذ به يقاسي حياة الهزائم، ويستصرخ الهم والماء والعشب والرمل والذكريات، وآفاق “بشبطة” التي عافت حضور خيالها في شعره المسكوب من دن الهوى، وحليت بسلواها العصور، وهللت لجلالها آيات من ملك القرى. ويتذكر حين مرت قوافل من نسغ خاطرة في وهاد الضمائر.. ويعود للبحر الذي يرسل له موجاً برياح وصليل حتى صار اللحن في أغنيته مغتربا..!
ويحكي لنا الشاعر “سماوي”، في هذه الغابة الموشومة بالمجاعات والكلمات القاحلة، كيف قابل وحل الحزن في شوارع منهزمة، وكيف واجه غيمة تمطر الرماد، وكيف قطف عن شجيرة الحياة الأحاسيس. ولكنه لم ينسَ تعليق لوحات بسقف الغصة التي توحي إلى العيون بمأساة المرافئ والعواصم الغارقة في بحيرة الصمت.. وللكتابة على الجدران المهددة طعم آخر، فالشمس كما يقول لا تتعثر بمشيتها.
وإلى دروب الرحلة الأبدية يأخذنا طوفان الحنين ربما إلى ألق مجهول، كان السؤال موجعاً مظللاً بدموع الخطيئة. هنا، يجيب سماوي وابتسامة الوجود تغمر أحزانه المشرعة، ويخبرنا كيف كاد أن يسقط مغشياً على شموخه فوق قناع غزير التملق، إلى أن استنهض إشراقة نفسه المعتمة، وكاد أيضاً أن يرتعش فوق صخور العصيان، ويقول كيف تأزم في غليل النيام وأعلن عن قيام الأبدية المستحمة في نشوة تستتب على أنغام سر سيبقى عالياً في المحال.
لم ينكر الشاعر، في رؤاه وأقاويل الفجر والرهان والمناجاة، أن مفاتيح بوابة فردوس الكلام ضائعة وأن القلب مغمور في محل الوداع تاركاً كلّ عواطفه وهي تتدفق مع الشلال إلى المحارق.
إذن، هو شاعر مخمور بطيبة صلصاله وبرعوية قصدية، وهو بحّار عازف على ترس العواصف. وهنا سردية خاصة وأحدوثة يشي بها وكيف خبأ شكوى الأجداد ونادم أحاسيس أبيه (شجرة الحنان الفارعة البساطة)، وآثام الضلال التي اختمرت في عمره الحافل بالنوم على سر الدوام. وكل الدروب إلى هناك تؤدي، ولكن لماذا توسّع في الإنكار عندما أشار إليهم بكل فصاحة؟
في نصوصه الغارقة بالفسلفة والموحية إلى دلالات شتى، يوجه سهام كلامه للذين لم يستشرفوا من فيض تضحيته سوى صدأ الكلام. ولكنه يأخذنا إلى عظات صمته، ويقول لنا إنّ باب حياته لم يكن ضيقاً، وهو جلجلة المستقبل القادم من سر الخيال.. وليس كبراً إذ أهزّ الأرض كي يعرفه من أنكروه. ونعمته أنه أدهش الناس بقوله حتى شاهدوا برق كلامه كيف مرت ريحه حاملة وجه الأسرار.
هناك قحط شديد ويأس أكثر مما يجب، وأيام بهيئة آمر مستبد توعز للوجه أن يهتدي للقناع.. سؤال يحرك الحدث إلى خيال القلم.. أصحيح أن الهلاك صار يلبس دهشة المألوف؟
يسعى الشاعر إلى فرح الكلام، وبه خيال الروح كي يجد المباهج في صميمه، وقد أسلم نفسه لاحتدام طقوس آلامه، وبات عليه أن يستشرف الذكرى لينهضَ حسنها من جوهر الحلم الأديمي.. ورؤياه، أنه لم يجاهر باحتراسه في حياة عاشها، وغايته هي أن ينتهي بحضوركم ليريكم الألق العظيم مطهراً في دمعة بين الخطيئة والصواب.
ويتابع بوحه بسرد حكايته وكيف شدّ رحاله إلى جلّق وقد جاءها معانقاً حيث يضيء السر فيها.
من السيرة والأحلام إلى انكسارات الاسم العربي، هل مرت فوق صروح المدن المنهارة في الإغفاءة غربان الغرابة.. وهل شاهد “سماوي”جراداً يعبر من أقفاص الدوري؟
يحزّ على وجه الزمن المصلي بشائر أرض الوطن، فاسمه عربي النبض.. يتحدّر من سفح جراح الهمس ويمارس حق الطرقات ويناشد أوطاناً يتأبطها القلق.. ويصرخ: صدري منفى لقصائد هاربة.. حتى بات يعانق أسماء الوطن.
“بائد كالرماد .. حيّ بالأخطاء”.. منذ ألفين وجرح.. يرى أنّ كلّ ما مرّ به من رغائب وشهوات وأخطاء لا تنتهي، جعلته هالة من ندم.. فهل هو كتاب العدم؟
يأخذه الحنين إلى الصرخات الأولى، تلك الصرخات المستعارة من صهوات الرعود. ولأمه التي أفرجت لشتاء عصيّ عن الوصف من شدة البرد والفرح، وكيف زيّن وجه أبيه بثلوج الفخار وراح يسوق ظلاله إلى حيث ترعى، وكيف تمكن من النيل بالمستحيل وسعى ليخرج ألون واقع أعتى خيال بعيداً عن اليأس والهذيان، إذ وقف أمام النجوم وخاض كلاماً وسطره لهباً، إلى أنْ أدرك أنّ مجاله هو صلاة شعور بكل الأشياء حوله.
أما “السواد في حده الأعظمي”، فهي مفردات بدلالات مواربة، الموت، الفرح، القلب، ملهاة، انهيار وخطا.. يتبنى الشاعر “سماوي” جمع اللهاث من تحت الركام والحطام، فيسلك طريق “تأبط شراً” ليستخرج الفحم من قيم الأعماق، وكأنّ الصور تنتحب وتتمزق؟
ويرى أن روحه تتخلل، ثم يأتي النداء: يا قراميد السماء المتماسكة، هل من أرض لإعادة ترتيبي؟
نعم الصور تنتحب وتتمزق والسياط تنهار من الألم، فالتفاحة نأكلها بنهم لنحسّ بآلام غريزة السقوط، وأنا الأعزل (كما يقول) حتى من دم قابيل وأعيد تشكيل الماء من بئر حجتي. نعم الصور تنتحب وتتمزق، ولكن أسأل: أين المصابيح في أشد هجير؟ أين أغيث طائراً حطّ على الفخ الذي نصبوه لاصطيادي؟