بمجلّات قليلة.. هل “صحافة الطّفل” واقع صعب أم خيال بعيد؟
ليس اليتيمُ من انتهى أبواهُ من همّ الحياة وخلَّفاهُ ذليلا
فأصاب بالدّنيا الحكيمة منهما وبحسن تربية الزّمان بديلا
إنّ اليتيم هو الذي تَلْقَى له أمّاً تخلت أو أباً مشغولا
إن المقِّصر قد يحول ولن ترى لجهالة الطَّبع الغبيِّ محيلا
أبيات أربعة لخّص فيها الشّاعر أحمد شوقي أسباب مشكلات سنوات طويلة ماضية وحاضرة وآتية، ليس من باب التّشاؤم بوجود حالة مرضية لطفل عربي يقرأ، لكنّ معطيات كثيرة نتابعها ونراقبها ونعيشها كلّ يوم وكلّ عام لا تبشّر خيراً.. وإن تحدّثنا محلياً، نتذكّر أننا قبل سنوات الحرب على بلدنا وقبل بدء الثّورة التّقنية كنّا تقريباً في المكان الآمن نوعاً ما، على الأقل من حيث الذّاكرة البصرية والفكرية التي سُجّلت بقلم لا يُمحى برامج أطفال هادفة وأغنيات جميلة المعاني سهلة الحفظ وقصص بسيطة عميقة يرافقها صورة جميلة، كانت غالباً بتوقيع رسّام الأطفال ممتاز البحرة، سواء تلك التي كنّا نتعلّمها في المراحل الدّراسية الابتدائية أو تلك التي كانت في المجلة المخصصة للطّفل “أسامة” الوحيدة المستمرة حتّى يومنا، طبعاً ليظهر بعدها “شامة” و”شام الطّفولة” و”المهندس الرّقمي الصّغير”. يقول كاتب ورسّام الطّفل رامز حاج حسين: نحن بحاجة ملحّة لوجود خطّة وطنية نستطيع من خلالها التّوجّه للطّفل بالشّكل السّليم، ما يتطلّب محاولات إعلامية وأدبية وتواصلاً بين جميع المؤسّسات والوزارات من دون استثناء، وعلينا أنّ نضرب عدد المجلات هذا بأكثر من عشرة لكي نصل إلى أطفالنا في كلّ المحافظات، طبعاً ولا نقصد العمل على العدد دون الكمّ، بل يجب أن تكون مجلات الأطفال متنوّعة، وأن يكون لكلّ وزارة مجلة خاصّة بها موجّهة للطّفل، ما المانع من أن يكون لدينا مجلة المزارع الصّغير أو الجندي الصّغير أو المعلم الصّغير وموجودة في الشّابكة والتّلفزيون والإذاعة، وهكذا يصبح بإمكان الطّفل اختيار ما يريد من هذه المجلات وفقاً لرغباته.
وخلال استضافته في ملتقى الاثنين الأخير الشّهري الذي يقيمه فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب ويشرف عليه الشّاعر قحطان بيرقدار رئيس تحرير مجلة “أسامة”، وخُصّص هذا الشّهر للحديث عن صحافة الطّفل في سورية، بيّن حاج حسين شروطاً يجب توافرها في النّص الموجّه للطّفل: نحن بحاجة لعنصر الدّهشة بالطّريقة التي نكتب فيها للطّفل، يجب أن نكتب من واقعه ولغته ومفرداته لا من واقعنا ومفرداتنا. هناك خيال رحب للطّفل يجب أّلّا يحدّه الكاتب بتفاصيل كلاسيكية وتأطيره بالقصّة الكلاسيكية.. أطفالنا خلال سنوات الحرب أصبح لديهم أسئلة كثيرة وينتظرون أجوبتها، فأين المثقفون المتّجهون بكليتهم للطّفولة؟ مضيفاً: كذلك الأمر بالنّسبة لمرحلة الطّفولة المبكّرة لدينا تقصير كبير، فنحن نعلّمهم فهم الحروف وترتيب الكلمات ونعاملهم كراشدين، بينما في الغرب يتمّ التّركيز على البصر والصّورة ومدلولات الألوان، فالطّفل في هذه المرحلة بحاجة للتّبسيط والاختزال، متحدّثاً عن تجربته مع مجلة “أسامة” واختلافها اليوم عمّا كانت في السّابق: عملت في مجلة أسامة منذ عام 1997 كرسّام وكانت أولى مشاركاتي شخصية “أبو حمدو” وتعاملت مع الرّعيل الأوّل المؤسّس ومنهم من لا نتذكرهم اليوم أمثال طه الخالدي الذي لم أجد صورةً له على الشّابكة أو حتّى سطراً واحداً عن سيرته الفنية المهمة، لذلك أنا أبحث عن ذويه وأهله لأكتب شيئاً عن شخص أثرى المجلة وذائقة الطّفل في تلك المرحلة، ومن المعيب أن يغيّب بهذه الطّريقة!.. يجب أن نشدّ الرّكاب لتوطين فنّ الرّسم للأطفال والكتّاب الأوائل وإعطاء المجال للمواهب وتوثيق هذه العملية ومدّ جسر الوصل بين أسامة التّأسيسية وأسامة الحالية.. لدينا أرشيف ذهبي للمجلة يحوي فنّاً يضاهي مجلات عالمية، لكن أين نحن منه؟.. نحن جيل تربّى على صورة بصرية لممتاز البحرة.. لكن اليوم نقرأ قصيدة تفتقر للغة البصرية العالية التي كان يقدّمها.. للأسف ما يقدّم اليوم للطّفل هو تسخيف للعقل وليس إلّا إبهار بصري سريع وآنيّ لا يساهم في ترسيخ فكر أو أدب أو ثقافة.
وفيما عدا هذه المجلّات القليلة، هل يمكننا القول بصحافة الطّفل في سورية؟ تجيب الصّحفية فاتن دعبول: فيما مضى كان هناك صفحة خاصّة بالطّفل وألغيت لأسباب مختلفة على الرّغم من غناها بما ينمّي مهارات الطّفل. اليوم لا يوجد لدينا صفحة خاصّة بالطّفولة في صحفنا اليومية، على الرّغم من أنّ من حق الطّفل أن يكون إلى جانب الكبار ويشعرهم بكينونته ويحثّهم على متابعة آخر المستجدات التي يهتمّ بها وفتح باب الحوار معه، مؤكّدة ضرورة الحاجة لصحافة استقصائية تقف عند تقييم إصدارات الطّفولة ومعرفة إمكانية توفير مصادر مهمّة لقراءاته، مركّزة على دور الأهل الأكبر في هذه العملية.
رأي أيّدته كاتبة المقالة، أنا، وأضفت عليه خلال استضافتي كإعلامية وككاتبة للطّفل: العنوان متشعّب كثيراً، لدينا مجلّات شهرية متخصّصة بأدب الطّفل، لكن ليس لدينا صحافة طفلية بالمعنى الحقيقي، فلا يوجد صفحة موجّهة للطّفل في صحفنا، غالباً هناك خبر صغير عن صدور عدد جديد من المجلات الأربع لا أكثر، كذلك الأمر بالنّسبة للتّلفزيون والإذاعة لا يوجد برنامج متخصّص بأخبار الأطفال واهتماماتهم، وإن وُجد فهو ترفيهي يفتقد أبسط الأمور وأكثرها صعوبةً حقيقة، لأنّ التّعامل مع الطّفل بحاجة لمعرفة وصبر وحكمة وروح لطيفة أيضاً.. يجب أن نذهب إلى الطّفل لا أن نطلب منه القدوم إلينا.
وتخلّل الملتقى مشاركات أدبية موجّهة للطّفل من مختلف الأجيال، إذ قدّم الأديب محمد الحفري قصّة قصيرةً بعنوان: “البقرة حموش”، كذلك مترجمة وكاتبة الأطفال آلاء أبو زرار قدّمت قصّة علمية موجهة للطّفولة المتوسّطة بعنوان: “قطنية تريد أن تسبح”، وشاركت الشّاعرة ثراء الرّومي بقصيدة “أنشودة فنّان”، كما باحت الشّابة منال اللحام ببعض من ذكريات إخوتها عن مسلسلات الأطفال القديمة واختلاف ذكرياتها عنها باعتبارها أصغر سنّاً، تقول: اليوم هناك كلمات يحفظها الأطفال عن ظهر قلب من دون أن يعرفوا معانيها، والإنتاج المرئي والمكتوب لا يقلّ عن الماضي على الرّغم من بعض الملاحظات، لكن هناك محاولات بائسة لا تشبه حياتنا.
وكما العادة، استضاف الملتقى أطفالاً موهوبين في العزف آدم صليبه والقصّة القصيرة بتول عيسى التي قدّمت قصّة بعنوان “صديقتي والشّابكة”، كما تحدّثت الطّفلة هيام ضويحي عن ضرورة أن يكتب الطّفل للطّفل، تقول: الكبار يكتبون كلمات صعبة علينا وقصائد لا نفهمها وتفرض علينا دراستها في المدرسة.
نجوى صليبه