ما السرّ..؟!!
عبد الكريم النّاعم
بعد أن جلس صديقي، وملأ جوّ الغرفة بدخان الحمراء الطويلة، قال وكأنّه كان يُراجع مقولة ردّدها في داخله أكثر من مرّة: “تُرى ما السرّ في تقدّم أمم وشعوب ما يُسمّى بالعالم الأوّل، وتخلّف مجتمعاتنا، بينما يقيّم البعض هذه الدول أنّها ليست على نهجه المعتقدي، وقد يستغرب كيف يكون هذا”؟!!
قلت له مبتسماً ابتسامة مشوبة بمرارة ما ذكره من ذلك التقييم: يا صديقي التقدّم والتخلّف، بمعناهما المادي والمعنوي، لا علاقة لهما بمعتقدات الناس، لأنّهما من صنع البشر، لا شكّ أنّ بعض المعتقدات قد حضّ، وشجّع على البنيان الفردي والمجتمعي أكثر من غيره، ولكنّ ذلك يظلّ مبادئ مطلوب من الناس التقيّد بها، فإذا لم يتقيّدوا بذلك فالقصور في الفعل البشري، لا فيما أُوحى للرّسل.
التقدّم مفهوم دنيوي يحدّد مساراته الناس، ويسعون إلى تطبيقه، وهكذا يرتبط التقدّم بالقانون المُصاغ، وبجدارة الهدف الذي يحمله، وبالجهة المطلوب منها تنفيذه، وبالناس الذين يشملهم هذا القانون، فإذا حدث أيّ خلل في جهة من هذه الجهات فسوف ينعكس سلباً على غيره، ويصبح مجرّد كلام صيغ لم يجر الالتزام به، وعندئذ يكون حضوره وغيابه سواء، وتحلّ محلّه سلوكيّات أخرى لا علاقة لها بهدفيّة القانون النظيفة.
إنّ ما سبق يا صديقي يتعلّق بالمدى الذي ارتفعت إليه أخلاق الناس الفرديّة، والاجتماعيّة، فالقانون لا يوضع ليُعلَّق في الفراغ بل ليتقيّد به الناس، فإذا فسدت أخلاقهم في المعاملات، والأمانة، والصدق، وانتشر الفساد، فإنّ هذه تبدو ظواهر فرديّة، وهي في الوقت ذاته مظهر اجتماعي في انعكاساتها، وهذا يُعيدنا إلى مضمون المربع الذهبي “إنّما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق”.
ما نقله البعض لي يا صديقي عن أخلاق تلك المجتمعات أنّ معظمهم لا يكذب، ولا يسرق، ولا يغشّ، ويؤدّي واجبه الوظيفي بأمانة وإخلاص، فلا يتهرّب، ولا يتلكّأ، ولا يماطل كي يحصل (إكراميّة)!!، ولا يتهرّب من دفع الضريبة، ويتقيّد بالقانون ليس لأنه قانون فقط بل لأنّه قيمة حضاريّة، وبمثل هذا السلوك تتقدّم المجتمعات، وتهيّئ نفسها لما أفضل.
في تلك المجتمعات الأملاك العامّة مقدّسة، الحدائق، الشوارع، وسائل النقل، الحدائق، الغابات، والمواطن هناك يدافع عنها كما يدافع عن ممتلكاته، فليست حدود بيتِه بيتُه الذي يسكنه بل حدوده المجال الحياتي الذي يتحرّك فيه، فنظافة الشارع نظافة لبيته، بينما نغرق في تخلّف مخيف، أبسط مظاهره أن تكون بيوتنا نظيفة وشوارعنا مليئة بالأوساخ التي نرميها.
أأُذكّرك بتمزيق مقاعد باصات النقل الداخلي، وبالأذيات التي لحقت بمقاعد الحدائق العامّة، وبعقليّة تشبه السطو يحملها البعض ترافقهم حيث حلّوا؟!!
أأُذكّرك بالذين يحرقون الأحراش والغابات لكسب أمتار من الأرض، أو للحصول على الفحم، مديراً ظهره إلى أنّ الطبيعة كي تستعيد ما دمّره تحتاج لعشرات السنوات.
نُقل لنا عن تلك البلدان أنّ ثمّة روحاً إنسانيّة هي الغالبة عليهم، نتيجة تلك التربية البيتية المجتمعية، وأنا أعني بعض بلدان أوروبا تحديداً، بعيداً عن ظلاميّة ما يحدث في المجتمع الأمريكي.. نُقل لنا أنّ أحد المواطنين زرع عدداً من أشجار الفواكه في حديقة بيته، وأثمرت ثماراً طيّبة، ولمّا لم يكن في البيت إلاّ هو وزوجته، فقد عمد إلى وضع هذه الفواكه في أكياس، وعلّقها في الشارع العام على إحدى السياجات لكي يأخذها مَن لا يستطيع الحصول عليها، وزّعها مجاناً.
في تلك البلدان لا يهتمّ الإنسان بعقيدتك، أو ما هو مذهبك، ولا يُقيم علاقة معك على ذلك الأساس، فهذه مسألة بالنسبة إليه شخصيّة لا يجوز لأحد أن يتدخّل فيها.
أوَ تَستغرب بعد هذا ذلك..؟!!.
aaalnaem@gmail.com