بؤساء هوغو في الحديقة
غالية خوجة
لم أتخيل يوماً الجلوس في حديقة بؤساء هوغو لأكتب هذه المقالة عن هؤلاء الناس البسطاء وهم يمضون ما تبقّى من أعمارهم في هذه الحديقة الصغيرة صيفاً وشتاء، خريفاً وربيعاً.
لهذه الحديقة بابان، يعبر الناس من أحدهما إلى ثانيهما ليختصروا المسافة، بينما الأشجار المعمّرات تختزن في ذاكرتها حكايات الجالسين والعابرين، فتهتز أوراقها كلما رأت منهم من تعرفه، وتسأل أغصانها عن الذي لم يمر منذ فترة طويلة، لتخبرها الفراشات بأن أحدهم استشهد في الحرب، وثاينهم مات وحيداً، وثالثهم سافر إلى المجهول، ورابعهم أصيب بالجوع كما أصيب خامسهم بضربة أحد القناصين، وسادسهم أصبح من جرحى الوطن، وسابعهم على فراش الموت بلا أهل ولا أبناء ولا أصدقاء ولا جيران.
الأشجار تعرفني، والأعشاب الذابلة والخضراء والتي ماتت تعرفني أيضاً، وربما العائلات المستريحة هنا، والأشخاص الوحيدون صغاراً، شباناً، وعجائزَ، يعرفونني، لكنهم لن يقرأوا ما أكتبه من أحوالهم المرفرفة مع الفراشات وهي تؤانسهم قليلاً.
لا الصمت يسكت عن السرد، ولا الكلام يتوقف عن التأمل، وزقزقة العصافير وحدها تتنقّل بين حبال الصمت وأوتار الكلام، والشمس تترك للمرأة العجوز ظلاً يحمل كيساً بلاستيكياً صغيراً حاضناً احتياجاتها التي استطاعت ابتياعها بأسعار مرتفعة جداً.
الأشجار توشوش بعضها متسائلة: لماذا كل شيء ترتفع قيمته في هذا العالم إلاّ الإنسان؟ لماذا الإنسان لا يعرف قيمة الإنسان؟
يتدخل ظل المرأة العجوز ليجيب: ما زال الإنسان يفقد قيمته الإنسانية على هذه الكرة الأرضية شمالاً وشرقاً، جنوباً وغرباً، صيفاً وشتاء، خريفاً وربيعاً.
الشمس تفسح للقمر العملاق الاقتراب من الأرض أكثر، ليومئ للناس بأن طريق النور أقصر من طريق الطلام، لكن الناس لا تلتفت إلى القمر، بل تمضي في المتاهة مضيّعة أعمارها وطاقاتها وأحلامها الهاربة للاغتسال بمطر قادم.
تستشعر البركة الفارغة من الماء ما يجري حولها، وتتساءل: ماذا لو وظفتْ هذه الطاقات في مشاريع مفيدة؟ ماذا لو أدرك الجميع مكامن القوة؟ لو أن العجائز والمتقاعدين والصبايا والشباب وربات البيوت والعاطلين عن العمل وظفوا طاقاتهم بما يفيد، فلا يجلسون كثيراً مع وحدتهم ليؤانسوا بهمومهم وحدتهم؟
الطاقات الجميلة الشفافة التي لا يراها أصحابها لا تريد أن تكون مثل تلك الأشواك التي كانت خضراء ثم أصبحت صفراء في الحدائق والمشاتل والمقابر، لا تريد أن تحرقها النيران لتصبح سوداء تماماً.
لكن، لماذا الوقت شائك أيضاً؟ وحياته تحترق؟
رائحة أشواك الوقت المحترق تشبه رائحة آلامنا المحترقة بين نبضاتنا، النابتة مع نبضاتنا، الهائمة مثل الفراشات وهي تؤنس الأشجار المعمّرة الحاكية للناس عن الناس.
في كل مكان على الأرض، ستجد حديقة هاربة من رواية فيكتور هوغو، قد نسميها حديقة بؤساء هوغو، ومهما تغيّرت الشخوص الجالسة والعابرة، لن تتغير ظلالها التي تشير إليها الشمس، فهذا ظل أخضر لأم شهيد تتوكأ على عكازها ما زال ينمو، وذاك ظل عروس قصفتها قذيفة إرهابية، ينمو بلون أبيض ويزهر الياسمين، وهناك ظلاللأشلاء طفل رضيع كان يحضن أمه، ما زال ينمو بلون البراءة الباحثة عن يدها التي كانت تحضنه لكنها الآن مجرد ظل يبكي بصمت.
وقبل أن أنهض من على هذا الكرسي الخشبي الذي كان أخضر، بحثت عن ظلي كي لا يضيع مني، وحاولت أن أنتشله من دمعاته وآلامه، لكنه كان أقرب إلى ظلٍّ محنّط، لا يريد أن يرحل معي، وما إن ابتعدت عنه قليلاً حتى نهض وشبك أصابع يديه مع أصابع الظلال الأخرى، واختفوا جميعاً داخل الأشجار المعمّرة.