انضمام السويد وفنلندا إلى عضوية الناتو يوقظ شبح المواجهات العسكرية
شكّل طلب السويد وفنلندا الرسمي الانضمام إلى حلف الناتو، في 18 مايو الفائت، منعطفاً تاريخياً في السياسة الخارجيّة للدولتين.
فعلى وقع العملية العسكريّة الروسيّة الخاصة في أوكرانيا، أنهت السويد بخطوتها هذه سياسة حياد طبعت علاقاتها الخارجيّة منذ سنة 1814، فيما شكّلت الخطوة الفنلندية نهاية حياد استمرّ طوال مرحلة الحرب الباردة حتى الأشهر الأولى من العام الحالي. حيث يعيد المنعطف التاريخي الذي نشهده حالياً للأذهان ماضي العلاقة العدائية بين السويد وفنلندا من جهة، وروسيا من جهة أخرى.
السويد خاضت ضد روسيا حروباً كثيرة على مدى قرون سابقة، لكنّ حربين كبريين حاسمتين في هذا الصّراع، لا تزال انعكاساتهما مستمرة حتّى يومنا هذا. إنّهما حرب الشّمال الكبرى (1700 – 1721) والحرب الفنلنديّة (1808 – 1809). فالحرب الأولى سطّرت نهاية الإمبراطوريّة السّويديّة وصعود القوّة الرّوسيّة، والثّانية كانت من العوامل الرئيسة الّتي جعلت السويد تعتمد سياسة الحياد في علاقاتها الخارجيّة.
عرفت السويد في عصر الملك غوستافوس أدولفوس، الّذي صعد إلى العرش سنة 1611، عصراً ذهبيّاً، واعتبرت الإمبراطوريّة السّويديّة طوال القرن السابع عشر حتّى بدايات القرن الثامن عشر دولة أوروبيّة كبرى. وبلغت مساحتها ضعفي مساحتها الحاليّة تقريباً، إذ ضمّت فنلندا وأستونيا ولاتفيا وكلّ المناطق المطلّة على بحر البلطيق، التي هي جزء من روسيا حالياً، إضافة إلى مناطق أخرى في شمال أوروبا. فشكّل عددٌ من الدّول الأوروبيّة المجاورة للإمبراطوريّة السّويديّة، ومن بينها روسيا، وكانت آنذاك قوّة إقليميّة، تحالفاً لكسر نفوذ السويد في حوض البلطيق، والتوسّع على حسابها. وهكذا اندلعت حرب الشمال الكبرى، الّتي أسفرت عن خسارة السويد لأراضيها في شرق البلطيق وشمال أوروبا، وحصلت روسيا بالمقابل على جزء كبير من الأراضي السويدية المطلّة على البلطيق، فنتجت عن هذه الحرب نهاية الإمبراطوريّة السويدية وصعود روسيا في المقابل إلى مصاف الدول الكبرى، وكان ذلك في عهد القيصر الروسي بطرس الأكبر.
هذه الصفحة التاريخية استدعاها فلاديمير بوتين، حينما صرح مؤخراً: «بطرس الأكبر خاض حرب الشمال الكبرى طوال 21 عاماً. وبدا أنه في حربه مع السويد قد أخذ شيئاً منها. هو لم يأخذ أي شيء منها، بل أعاد ما كان ملكاً خاصاً لروسيا… وعندما أسس العاصمة الجديدة (في سانت بطرسبرغ)، لم تعترف أي من الدول الأوروبية بأنها أرض روسية، بل اعتبروها جزءاً من السويد. ومع ذلك، فإنه من قديم الأزل كان السلافيون يعيشون مع الشعوب الفنلندية الأوغرية، وكانت هذه الأرض تحت سيطرة روسيا». وأضاف بوتين: «من الواضح أنه من قدرنا أن نعود ونقوى أيضاً. وإذا عملنا على أساس أن هذه القيم تمثل أساس وجودنا، فإنه من المؤكد أننا سوف ننجح في تحقيق أهدافنا».
الحياد السويدي وانعكاساته
بقيت السويد لاعباً مهماً على الساحة الأوروبيّة في القرن الثامن عشر، واستمرّ الصّراع الروسي – السويدي قائماً، كما اندلعت حربان بين الدولتين في تلك الحقبة، لكنّ حرباً جديدة بينهما في مطلع القرن التالي، هي الحرب الفنلندية، التي نتجت عنها خسارة السويد فنلندا لمصلحة روسيا سنة 1809، وكذلك اندلاع الحرب النرويجيّة – السويديّة سنة 1814، جعلتا من السويد تعتمد سياسة الحياد في علاقاتها الخارجيّة.
وقد أثبتت هذه السياسة نجاحها، إذ إنّها جنّبت البلاد أهوال الحروب التي دارت على أراضي القارّة الأوروبيّة، وأبرزها الحربان العالميّتان، وجنّبتها كذلك استقطابات الحرب الباردة.
استقلال فنلندا وحربها مع السوفيات
إذا كان تاريخ السويد المتوتر مع روسيا لافتاً فإن موقع فنلندا الجيوسياسي هو أكثر حساسية من السّويد، إذ تجاور روسيا الفيدراليّة (وسابقاً الاتّحاد السوفياتي) مباشرة فتمتلك حدوداً مشتركة معها، يصل طولها إلى نحو 1300 كيلومتر. وقد شهدت فنلندا بُعيد استقلالها حرباً أهليّة وجيزة (سنة 1918)، واتّسمت علاقتها مع الاتّحاد السّوفياتي في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الأولى بالتّوتّر. ثمّ جاءت الحرب العالميّة الثّانية، ليتمكّن الجيش السوفياتي من الانتصار في ما يعرف بـ “حرب الشّتاء” (1939 – 1940) بعد أشهر من القتال، لتعيد فنلندا في معاهدة موسكو حوالي 10 في المائة من مساحتها للاتحاد السوفياتي.
تحوّلات جذريّة في سياسة فنلندا الخارجيّة
أعلنت فنلندا التحالف مع ألمانيا النازيّة بهدف “استعادة الأراضي الّتي خسرتها” لصالح الاتحاد السوفياتي. لكنّ هزيمة الألمان في الحرب جعلتها تتكبّد خسائر إضافيّة في الأراضي لصالح السوفيات، وفُرضت عليها تعويضات ماليّة باهظة. وبفعل موقعها الجغرافي المجاور للاتّحاد السّوفياتي وخطر اندلاع حرب جديدة بينهما، اعتمدت فنلندا منذ بدء الحرب الباردة، سياسة حياد عن الأحلاف العسكريّة، ووقّعت اتّفاقيّات صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفياتي حماية لأمنها، مع حفاظها على هذا الحياد.
ومع سقوط الاتحاد السوفياتي مطلع التّسعينيات، بات بإمكان فنلندا التّوجّه نحو الغرب، فانضمّت وجارتها السويد إلى الاتحاد الأوروبي مطلع العام 1995. وحافظت كالسويد على جيش قويّ مجهّز ومدرّب على أعلى المستويات، وحرصت على امتلاك ترسانة عسكريّة حديثة، ونسّقت بشكل وثيق مع الناتو قبل طلب انضمامها إلى الحلف في أيّار الماضي.