ثقافةصحيفة البعث

محمد عدنان سالم.. شيخ الناشرين السوريين وعميد النّاشرين العرب

بدا جلياً من خلال الكلمات المؤثرة التي أُلقيت في حفل تأبين أ. عدنان سالم، والذي أقيم في مكتبة الأسد الوطنية مؤخراً بحضور فعاليات رسمية وشعبية بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته، أن الأثر الذي تركه الراحل كان كبيراً كواحدٍ من أهم الناشرين في سورية والوطن العربي، وأنه في رثاء الرجال والقامات الكبار يصعب أن تُعبّر الكلمات عن مكانتهم وآثارهم وبصماتهم، ومن هؤلاء الراحل محمد عدنان سالم لأنه لم يكن رجلاً عادياً أو شخصاً عابراً، بل شكّل أنموذجاً للإصرار والتحدي في حمل راية الثقافة بتعدّدها وتنوعها في فترات عديدة حرجة من عقود عديدة واجه خلالها عقبات وتحديات لا حصر لها، وأن حفل التأبين ليس من أجل إحياء ذكرى وفاته بل لذكر سيرة هذا الراحل كي نستخلص الكثير من تجاربه، لتكون أمام جموع الناشرين العرب حالياً ومستقبلاً صورة مضيئة ومشرقة أمامهم، وكيف يكون الناشر مؤثراً في المجتمع وملتزماً بقضايا الأمة ومحترفاً يتمتّع بالصدق والأمانة في سلوكه مع الآخرين، وخاصة الكتّاب والمؤلفين والقراء.

وأكدت الكلمات على أن الراحل واحد من المثقفين العرب الأكثر شهرة في عالم النشر والكتب والتأليف في العالم العربي، وقد استطاع أن يمنح حركة النشر في العالم العربي معناها الحضاري والثقافي من خلال رؤيته وخبرته الكبيرة التي اكتسبها على مدى أكثر من ستين عاماً مكَّنته من التمييز بين الغث والسمين فيما ينشره، فاستحق عن جدارة لقب “رائد النشر في العالم العربي” وهو المثقف الذي سبق عقله عمله، والناشر التنويري الذي وقف ضد التطرف بكل أشكاله، والناشر الديمقراطي الذي كان يؤمن بالنقد والاختلاف والاعتراف بالآخر، والعصري الذي يؤمن بضرورة الأخذ بالأساليب الحديثة في النشر ويدعو إلى النشر الإلكتروني وعبر شبكات الإنترنت.

لم يكن ناشراً تقليدياً

وأجمعت الكلمات على أن الراحل لم يكن ناشراً تقليدياً، ولم يكنْ النشرُ هدفَه أساساً، وإنما كان وسيلةً لتحقيق هدفه في إيصال المعرفةِ النافعةِ للقراء، فلم ينشرْ كتاباً لا يتوخّى النفعَ فيه، ولم يُصدِر مخطوطةً لا طائلَ من ورائها، وكان إلى ذلك يفتحُ نوافذَ المعرفةِ كلَّها ولا يُغلق في وجهِ الرياحِ نافذةً فيقبلهُا أو يردُّ عليها ويُحذّر منها لأنه لا يُؤمنُ بالمنعِ ولا بالوصايةِ على القراء، بل بتربيةِ المناعةِ، خصوصاً في هذا الزمن المنفتح، فكانت عنايته بنشر أنواعِ المعارفِ النافعةِ كلِّها دون استثناءٍ، فاهتمَّ بالأطفالِ اهتماماً خاصاً، ليقدّم إليهم ما ينفعُهم من أدبٍ يناسبُهُم، يعتمدُ على مُعطياتِ الحضارة العربية للوقوفِ في وجهِ الآدابِ الوافدةِ التي قد يكونُ فيها ما يؤذيْ خيالَهمُ ولا يقدّمُ فِكراً صحيحاً، فكان شخصية فريدة من نوعها، حمل مهمّة ورسالة واجتهد في توظيف وقته، وحوّل دار الفكر منذ أكثر من نصف قرن من مجرد متجر لبيع الكتب إلى مؤسسة عالمية يتردّد صدى منشوراتها بين الشرق والغرب ويتطلع العالم لترجمتها إلى لغات مختلفة، وقد كان الراحل يتطلع من خلالها إلى بناء جيل يقرأ ويدرك ماذا يقرأ.

وبيّنت الكلمات أن للراحل آراء مهمة في صناعة النشر في العالم العربي وهموم الناشر العربي، وكان يتطلع دائماً إلى مستقبل صناعة النشر في ظل التحولات الخطيرة والمتسارعة وتحولها من وعائها الورقي إلى أوعيتها الإلكترونية، وهو الذي دعا الناشر العربي إلى أن يكون له مشروعه الثقافي الواضح وأدواته الفنية والعلمية المتطورة، كما دعا الناشرين إلى مزيد من التلاحم والتعاون والتخطيط لإنقاذ سفينتهم من الغرق، وضمان مستقبل آمن لمهنة صناعة النشر. 

“افعل الممكن إلى أقصى حد”

للراحل تاريخ طويل في عالم الكتاب، فمن صاحب مكتبة إلى صاحب مشروع (اقرأ)، ومن ناشر إلى صاحب رسالة وفكر ومؤلَّفات ومواسم ثقافية، يقيم المحاضرات والندوات والحوارات، ويكرم العلماء، وقد اتجه إلى ممارسة البناء الثقافي من خلال تأسيس “دار الفكر” التي تابع العمل فيها تحت شعار “افعل الممكن إلى أقصى حد ممكن”، وقد وضعت منذ أيامها الأولى خطوطاً عريضة لأهدافها، انحصرت في نقاط مهمّة على رأسها تزويد المجتمع باحتياجاته المعرفية للصغار والكبار، والحوار والفكر المستنير المحترم للتراث، والآخر احترام حقوق الملكية الفكرية لتشجيع الإبداع وتبني الأعمال المجدّدة والمستشرفة للمستقبل، وفي مجال التطبيق اعتمدت الدار على معايير أساسية لم تخرج عنها هي معايير الإبداع والعلم والحاجة والتدقيق اللغوي لكل كتاب ومعايير التخطيط للمستقبل، وهندسة الأبحاث والأفكار، وتطوّرت دار الفكر في مجال الطباعة مع الأجهزة الحديثة، ثم خطت خطوة نوعية في مجال الطباعة، فأدخلت إلى سورية لأول مرة في تاريخ طباعتها أجهزة للصف التصويري الضوئي في السبعينيات، وكانت السبّاقة بعد ذلك إلى اعتماد الطباعة الحاسوبية، وعلى إثر ذلك توسّعت صلاتها، فقدمت أعمال نشر مشتركة مع مؤسسات عديدة كالمعهد العالمي للفكر الإسلامي، ومركز جمعة الماجد للثقافة والتراث في دبي، ودار صادر في بيروت، ومعهد غوته الألماني، وقد بلغت منشوراتها حتى اليوم أكثر من ألفين وخمسمائة عنوان، وقد تجاوز عدد مؤلفيها 500 مؤلف للكبار و100 مؤلف للأطفال هم من خيرة وأشهر الكتّاب في الوطن العربي والعالم، كما أقامت الدار الكثير من المناسبات الثقافية لتقدم تفاعلاً بين المؤلفين والقراء، وكرّمت من يستحق التكريم من كتّابها لإيمانها بالثقافة التي تتحرك على الأرض في صميم المجتمع وتعيش قضاياه، وكان عدنان سالم وجد ضالته في الكتاب الذي أحبّه وشغف به، فبدأت الدار بمطبعة يدوية، ثم تطوّرت إلى صالة عرض، فدار للنشر ضربت بجذورها في أرض العلم، وبفروعها وأغصانها في آفاق المعرفة المتجدّدة، وقد حصدت بإدارته مجموعة كبيرة من الجوائز لحسن اختيارها لموضوع الكتاب ولجودة طباعته كجائزة أفضل ناشر عربي من وزارة الثقافة المصرية 2002، وجائزة الناشر النموذجي في معرض طهران الدولي، وجوائز من مؤسسة التقدم العلمي بالكويت، كما حاز عدنان سالم أيضاً على العديد من الجوائز، وهو الذي تقلّد عدة وظائف نذكر منها: المدير العام لدار الفكر منذ تأسيسها عام 1957، رئيس اتحاد الناشرين السوريين، نائب رئيس اتحاد الناشرين العرب، رئيس اللجنة العربية لحماية الملكية الفكرية، رئيس الجمعية السورية للملكية الفكرية، رئيس الملتقى العربي لناشري كتب الأطفال. من كتبه نذكر: القراءة أولاً، هموم ناشر عربي، الكتاب العربي وتحديات الثقافة، الكتاب في الألفية الثالثة لا ورق ولا حدود، القرصنة في عصر اقتصاد المعرفة، حرية النشر وإشكالية الرقابة على الفكر، آفاق التغيير والعصر الرقمي.

أمينة عباس