قراءة في المجموعة القصصية “عيون المها”.. للأديبة إيمان الدرع
الأديبة والروائية إيمان الدرع صدر لها ست مجموعات قصصية وفي الرواية صدر لها ثلاث روايات بالإضافة إلى الأعمال الدرامية ومن أعمالها القصصية “عيون المها” الصادرة عن مركز الحضارة العربية وقد ضمت بين جوانحها حوالي ٦٣ قصة من القصص القصيرة، فالكاتبة أخذتنا إلى عالمها من خلال الانفعالات والعواطف وتجسيد الواقع بصورة جلية فقد بدأت المجموعة بإهداء تقول فيه: إلى من أعاد ترتيب الحجارة المنهارة في مدائني إلى الشمس التي أصرت على الشروق رغم ضبابية الأرصفة.. إلى من أحيا في خارطة الوطن الجريح، صوت الحق، رغم عبثية الموت.
ومن ثم يقدم د. حمدي حمودة المجموعة القصصية ليقول: إن لإيمان القدرة على الوصف تنبع من عشق فريد لديها للكلمة تجده عند كبار الكتاب مثل ماركيز ومحفوظ والغيطاني وديكنز إن الواقعية في قصصها ممزوج بالخيال بطريقة مدروسة لإيجاد العقدة من الأسفل إلى الأعلى إلى أن تصل إلى حبكتها ثم تبدأ في فك العقدة من الأعلى إلى الأسفل.
ومن خلال قراءتي الممتعة بتفاصيل القصص التي تتناولها وبطريقة السرد التي جعلتني أتوق بشوق لقراءة كامل القصص تأخذنا بعالمها إلى الواقع الممزوج بالخيال والوجدان فالأديبة تطرح أسئلة أنطولوجية عن قضايا تؤرق الوجود وتغوص عميقاً بكل ما حولها من الشوق والحب والوطن والغياب والمنفى والموت والحرب والحزن فكل قصة فيها أنين النفس وتساؤل الروح الحائرة بلغة أنيقة وبأسلوب فني متميز بالتكثيف والاختزال والقدرة على إعادة تشكيل الصورة الإبداعية فكان الصراع واضحاً في كثير من الطروحات التي جسدتها في قصصها الاجتماعية لتعتمد على اللغة الرمزية والدلالة التي تمثل اختزال كبير عن التجربة الإنسانية وتقديمها في عبارات شفافة تعتمد على الحكمة.
وفي مقطع من قصة بعنوان “صمت الرحيل” تقول: كنت أحاول أن أشده من هذا العالم الذي يعيش فيه والذي أحسه دون أن أعرف مفرداته ببعض الثرثرة والتحدث عن أشياء سردية غير مترابطة ولكني لم أفلح، أحسست بسذاجة موقفي أمام عظمة موقف يعيشه رجل وحيد يعيش أصعب لحظات عمره. قصة مؤثرة من الواقع تتحدث فيها عن رجل مسن يدخل المشفى ويضم صورة ولده الذي تأخر عليه بسبب انشغاله ليرحل بصمت وألم ومن ثم يأتي ولده متأخراً جداً بعد فوات الأوان.
نجد هنا الكاتبة دخلت وتأملت عميقاً الذات الحائرة في داخلها والذات المتأملة في خارجها هناك مسافة فراغية تتأرجح بين الهنا والهناك وبين الأنا والآخر بين الحضور والغياب بين الحب والفراق وبين البقاء والرحيل فقد ظهرت تجليات الأنين والانكسار التي جسدته بالألم والوجع الذي يحيا في النفوس في مقام الفقد وهذا ما جعلنا نجده في أغلب القصص وفي مقطع من قصة بعنوان “امرأة على الناصية” تقول: توقفت على ناصية الشارع قبل التوجه إلى بيتي تراءت لي صورتان لرجلين أتيا حياتي الأول خطيبي الذي صار زوجاً لغيري لواحدة تكور بطنها لتنجب له مايشاء من البنين تذكرت صمته المطبق وقطارة عواطفه التي لم تشبع روحه والآخر حبيب يغدق بسخاء أعاصير مشاعره وجاء لفحتني وتركتني وحيدة حيث أنا.
نجد هنا نزعة فلسفية توازي ذلك الحس الصوفي فقد اعتمدت الكاتبة على بساطة العبارة ووضوحها الكلي المنبثق من حالة تأكيد إلى حالة التأويل والتوغل في عمق الأحداث التي تتحول إلى فضاء أوسع مؤثث بصور مشحونة بالإيحاءات وكسرا للمألوف فالدفق الشعوري مرتبط بالآخر دوماً تخلق منه هامات ومساحات مضيئة وشفافية وخصوصية الطرح التي تنسجم مع المفردات في عذوبتها وهمسها دون صخب والصدق المليء بالانفعال العاطفي الذي يلامس الروح والوجدان كلها تدل على أن الكاتبة متمكنة البناء لغوياً ومرتبة بكيفية خاصة من حيث الفكرة والرسالة المراد تمريرها للقارئ وفي مقطع من قصة بعنوان “عيون المها” تقول: “طال صمتك: حسناً استدعي خوافي ذاكرتي من رماد الأيام. لأعرف من كان سبباً في قتل بريقك.. ها أنا أعود إلى الوراء.. أطوي بساط العمر” فقد وظفت الكاتبة الأحداث بأسلوب سلس وكأنه أجزاء من مقطع موسيقي وهذا يعطي الكاتبة إضافات جديدة في تصوير حقبة زمنية عبر قصصها فالمجموعة مليئة بالأحداث المتنوعة التي تضم إسقاطات رمزية على الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي نعيشه والظلم والحرب واختيار شخصيات مناسبة للبيئة التي نعيش فيها من خلال الوصف الدقيق حيث عالجت الكثير من القضايا الاجتماعية في بيئتها من خلال منظور أدبي جديد كما برعت الكاتبة في تحريك شخوصها ببراعة ومرونة فائقة في جميع القصص مما أضفى فيض من الحيوية والدهشة وقد تنوعت عناوين المجموعة نذكر منها “أيام مسافرة، وجه خلف الجدار، قلب تحت الرماد، هذه ليلتي، على ذمة التحقيق وعناوين أخرى” فالكاتبة إيمان استطاعت توثيق حالات نعيشها لتنسجها بروحها المتأملة وبقدرتها التعبيرية وطريقة السرد المدهشة وصناعة الصورة الفنية وتلك الدوامة التي تحيط بالذات والمشاعر القلقة كلها زادت من جمالية المجموعة القصصية المكتملة الرؤية والمثيرة للطرح.
هويدا محمد مصطفى