زهرة الصّبار..!
حسن حميد
بلى، يرقصُ قلبي فرحاً لكلّ عمل إبداعي وافٍ يظهر هنا أو هناك، لأن العمل الإبداعي أيّاً كان شكله، وأيّاً كانت هيئته، فهو مكابدة ذات مهمومة بالحياة والقيم، تجعل من العادي، والمتوارث، والمتواتر، والهامشي، عالماً من العجائب والخوارق لأن روح الأدب مسّته بالنورانية فأضاءته، كما تضيء القناديل البيوت، مثلما مسّته بطيف من طيوف الخلود ليبقى ويدوم.
من هذه الأعمال الأدبية التي رقص قلبي لها فرحاً، رواية الأديب هزوان الوز الجديدة (زهرة الصّبار) التي تجول في المكان الدمشقي بحواسها كلّها، وأشواقها كلّها، وانتباهاتها العميمة كلّها أيضاً، حتى ليصير المكان هو الشخصية الأغنى التي تقود السرد من دال مدهش إلى دوال مدهشة أيضاً، ولأن المكان أثير، وقريب، وثرّ فإن الأسرار الدمشقية تماشي الأسطر منذ العتبات الأولى للرواية وحتى خاتمتها، ومن خلف المكان متعدّد الرموز والعلوات، تتجلّى أزمنة دمشق العابقة بعطر الحضارة التي بنتها الأيدي، وصاغتها العقولُ، وآنستها الأرواحُ بلطفها العميم.
عودة هزوان الوز إلى نبعه الأثير، المكان الدمشقي، ليست عودة الخائف على ترسيمات المكان وحدوده، ولا هي عودة الحارس النبيه المتفقد للقيم وحضورها في البيوت، لأن المدن بيوت، وإنما هي عودة السّاهر على ديمومة الجمال، ليرى السّحر الدمشقي، نوافذ، وحدائق، ودروباً، وحكايات، وهبوب رياح رخيّة، ووشائج تبديها البيوت التي تحرس كلّ شيء، وتحافظ على كلّ شيء، وتستبطن كلّ شيء، لأن الحكايات والعادات والتقاليد والتصورات والأعراف حياة عزيزة وأزيد في ظلّ الموجات المتدافعة تترى من الوهم، والسّراب، والقولات الجوف!.
في (زهرة الصبار) يواقف هزوان الوز حياة أسرة دمشقية متعدّدة في أجيالها، ومشاعرها، ورغباتها، وأولوياتها ليحدثنا عما يدور في دمشق من لغب حول تعريف (الدمشقي)، أهو من يسكن داخل السور، أم هو من بنى وعاش خارج السور، ولا همّ له سوى صون المعنى الدمشقي وحفظه من كلّ أذية أو رامية! ويتساءل الكاتب كيف لدمشق، وهي عاصمة من عواصم الحضارات الكبرى أن تُقيّد جمالياتها، وفنونها، وثقافتها، وصفاتها، وسلوكيات أهلها، وأعمال بنيها، بقيد اسمه السور! إن عين السرد الرّائية، مثل الكاميرا، تجول في زوايا، وأمكنة، وخانات، وحارات، وحدائق، وأسواق، وشرفات البيوت الدمشقية لتبدي لنا مازلّته كلالة البصر، لتبدو دمشق في لحظة الامتلاء الذهبية الآتية تخلقاتٍ وصوراً، وغنىً، بأيدي الحذق، ومنها يد التاريخ وآثاره ، وأيدي الأمكنة وسماتها، وأيدي الكتب والفنون ومساهراتها، وروح السحر التي لم تغادر البيوت والمدارس والحقول والمشاغل.
ليس الخوف على المكان الدمشقي هو من يدفع هزوان الوز ليكتب جمالياته، ولا هو الخوف من غوائل الزمن الجارحة التي غيّرت ومحت، وإنما يكتب عن دمشق ليقول لنا إنها كتاب ثقيل في غناه، وإن غناه قابل للمضايفة، لأن جوهره الداخلي يروم المضايفة ويسعى إليها.
في الرواية صراع مجدول من أصوات جيلية عدة، لأن الرواية رواية بوليفينية، تواقف العادات والتقاليد بوصفها تراثاً، وتواقف دمشق الحاضر وما أسفرت عنه المضايفات الجديدة، وما أكثرها، فيتجلّى نبر الأصوات الطّوافة حول المكان، والمقام، والحضور، والدور، والمكانة! فتقرّ في النهاية الرؤيا على أن دمشق هي فضاء حرية، ومضايفة، وسعة، وناس، وأفعال، وانتماء، وهذا شأن المدن العواصم التي تمرّ بها الأزمنة مرور النار بالذهب!
في الرواية أسرة تمثل أصواتها الجيلية، كلّ الأسئلة، والرغبات، والمخاوف، والأحلام.. التي تهجسُ بها دمشق (المكان والتاريخ والناس والعطاء)، حتى لتصير هذه الأصوات أشبه بالآلات الموسيقية التي يناددُ بعضها بعضاً من أجل المزيد من المتعة، والجمال، والدهشة، عبر تقنية روائية صعبة يتحاور فيها الماضي الدمشقي، شفاهاً وتدويناً، مع الحاضر الدمشقي منعاً لأيّ تهاون أو شرود.
تعددية الأصوات في الرواية، استدعت تعدّد ضمائر السّرد، وتعدّد المشاهد، وتعدّد الحكايات، وتعدّد الرواة في مبارزة إبداعية نادرة، لهذا أقول بطمأنينة، إن هزوان الوز يكتب رواية الإدهاش المترادف والمتبوع بالحضور المضيء كي نعرف دمشق أكثر، وهذا ما جعل الرواية غنىً معرفياً، وما جعل الأسلوب قلادةً، وما جعل الرؤى قناعاتٍ قارّة بأن المكانَ والتاريخَ والهويةَ والأحلامَ والناسَ كائناتٌ.. تحرسها العيون اليواقظ.
Hasanhamid55@yahoo.com