استثمار الطاقات العلمية بين يدي أهل الملاءات المالية
عبد اللطيف عباس شعبان
شهدت السنوات الأخيرة وستشهد السنوات القادمة تخرّج آلاف الطلاب من كليات الطب والصيدلة، ونظراً للرواتب الضعيفة في الجهات العامة التي لهم فيها مجالات عمل ومنها وزارة الصحة، فقد انخفضت أعداد المتقدمين للتعيين في هذه الجهات، لأن راتب الطبيب أو الصيدلاني لا يكاد يكفي نفقاته اليومية (أجور نقل ونفقات خليوي ومصروف يومي..)، عدا عن لزوم بعض الحاجات الخاصة في حدّها الأدنى بين حين وآخر، ما تسبّب في عزوف الكثيرين عن طلب التعيين، وجعل وزارة الصحة تشكو من نقص الأطباء لديها في أكثر من مكان، وخاصة في المراكز الصحية الريفية، رغم كثافة الخريجين كل عام!.
الملفتُ للانتباه أن قسماً كبيراً من هؤلاء الخريجين هم من شريحة الأسر الفقيرة التي بذلت الكثير من دخلها وقوت يومها حتى تخرَّج ابنها صيدلانياً أو طبيباً، وتبيّن أن تمكينه من الانخراط في ميدان العمل بالمهنة تطلّب عشرات وربما مئات آلاف الليرات السورية لتسديد الأجرة الشهرية لمكان العمل إذا وجده في المكان المناسب، وعشرات وربما مئات الملايين حال اختار الشراء، عدا عن عشرات وربما مئات الملايين الأخرى التي تتطلبها قيمة التجهيزات والمعدات اللازمة لمكان العمل، وواقع الحال يظهر أن نسبة كبيرة من الخريجين غير قادرين على ذلك، هذا فيما يخصّ الصيدلاني وطبيب الأسنان الذي يمكنه العمل بعد خمس سنوات دراسية، أما الأطباء البشريون الذين لا بدّ من متابعة تخصّصهم، فأمامهم نفقات الوقت الدراسي الأطول مدة، والتكاليف الأعلى التي تنتظرهم لتحضير مكان العمل لاحقاً.
المؤسف أن بعض الأسر تضطر لبيع بعض ممتلكاتها -التي ورثتها أو جنتها- من العقارات أو غير ذلك، وربما بأسعار متدنية قياساً للسعر الرائج، لتأمين مكان العمل وتجهيزاته لابنها الطبيب المتخصّص أو الصيدلاني، ولكن الكثيرين لا يملكون ما يستطيعون بيعه، وتبقى الظاهرة البارزة اليوم هي ظاهرة الإعداد للسفر إلى الخارج لكثير من الخريجين، ولكن بعضهم قد لا يُتاح له ذلك، وبعض من سافروا تعرّضوا لمنغصات في البلد الذي قصدوه، ما يجعل أفراحهم تتحول إلى أتراح.
الواقع يفرض وجود مخارج لهذه الحالة، وأحد هذه المخارج يتمثّل بضرورة وجود جهة ممولة تساعد في تمكين هؤلاء الخريجين من ممارسة عملهم الذي يحلمون به، وقد تكون المصارف أحد الجهات المانحة للقروض، ولكن الفوائد المرتفعة والأقساط الشهرية الكبيرة لهذه القروض ستجعل الكثير من الخريجين يعزفون عنها لصعوبة التسديد، خاصة وأن الدخل المتحقق في السنوات الأولى من العمل قد لا يكفي لدفع الأقساط المتتالية، ما يتطلّب أن تكون القروض المصرفية بفوائد أقل ومهلة تسديد لا تقلّ عن ثلاث سنوات، فهل المصارف –بعضها أو كلها– تقبل بذلك؟، وفي حال قبلت فمن حق المصرف الدائن أن يطلب ضمانات، والمؤسف أن بعض الخريجين لا يملكون توفير الضمانات المطلوبة.
يوجد مخرج آخر يتمثل بقيام العديد من مالكي رؤوس الأموال بالإعلان عن استعدادهم لتشاركية مع هؤلاء الخريجين، بحيث يؤمّن صاحب المال مكان العمل (عيادة، مركز صحي، مشفى) وبعض أو كلّ التجهيزات والمعدات، لقاء منح الخريج راتباً مقطوعاً أو استحقاقه نسبة من الدخل المتحقق، وذلك بموجب عقد قانوني لأجل معيّن، يضمن حقوق الطرفين، وعلى الأغلب هذه هي الحال السائدة في البلدان الخارجية التي يقصدها الخريجون، ويبقى مخرج آخر كأن يقدم عشرات المليئين مالياً تبرعات (مساعدات) إلى بعض الخريجين لدعمهم في تأسيس مكان عمل.
إن تفاجأ الخريجين بعدم قدرتهم على ممارسة مهنتهم وتحقيق طموحاتهم العلمية والمادية، مدعاة لقلق كبير وله منعكسات قد لا تُحمد عواقبها، فاستثمار طاقات هؤلاء الخريجين حاجة وطنية لها مردودها الاقتصادي والاجتماعي معاً، ومن الخطأ الكبير إغفاله أو التعامي عنه، وحبذا ألا يغيب عن أذهان الطلاب والأسر والجامعات، الحال الذي سيؤول إليها الخريجون أياً كان اختصاصهم، فهل سينجم عن ذلك أن يشهد العام الدراسي المقبل والأعوام القادمة انخفاض طالبي دراسات الطب والصيدلة من أصحاب العلامات العالية في الثانوية العلمية، خلافاً لما كانت عليه الحال في الأعوام الماضية؟.
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية