“الصبر الاستراتيجي”.. وأشياء أخرى
أحمد حسن
صحيفة “لوموند” الفرنسية نصحت، الأسبوع الماضي، صنّاع القرار الغربيين، بتلقين شعوبهم “الصبر الاستراتيجي” لتحمّل تداعيات الحرب في أوكرانيا.
المصطلح، وبغض النظر عن “فذلكات” البعض في تعداد صور استخدامه ومواقعها ودلالاتها، يكاد يكون له معنى واحد ودلالة محدّدة، فهذا شعار خاص، كما يعرف الجميع، بمن يعاني ولا يملك إلا خياراتٍ محدودة للمواجهة.
بيد أن اللافت في الأمر أن “لوموند”، على ما يبدو، تستخدم هذا الشعار -في هذه اللحظة العالمية القلقة- وبهذه الدلالة تحديداً، أصالة عن نفسها ووكالة عن تيار غربي رسمي وشعبي يتزايد عدد أتباعه باستمرار.
إثبات صحّة ذلك لا يتأتّى لنا من التمعّن في نصّ مقالة الصحيفة فقط، فهذه، بالمحصلة، وجهة نظر صحفي وصحيفة ما، وإن كانت “وجهةً” موجّهة ومجنّدة من “إعلام حربي” تابع، كما يعرف الضالعون في علم العلاقة بين الإعلام والسياسة في الغرب الحر!.
واستطراداً، مؤخراً أعاد الجِنرال “توني راداكين”، قائد القوّات المسلّحة البريطانيّة، تصويب بعض “الخزعبلات” الإعلامية التي صدّرتها صحافة الغرب عن روسيا ونظامها السياسي خلال المرحلة الماضية كحقائق دامغة حين وصفها، أي هذه “الحقائق”، بأنها “مُجرّد تفكير رغبوي” لا أكثر من ذلك.
بالعودة إلى ما سبق، فإن “توني بلير”، رئيس الوزراء البريطاني السابق، أو ذيل الكلب الأمريكي كما تعرفه، وتعرّفه، صحافة بلاده، اقترح، بدوره، هذه الصورة المحدّدة لـ”الصبر الاستراتيجي”، وإن بصورة غير مباشرة وباستخدام عبارات أخرى، حين اعترف مؤخراً بأننا “نشهد نهاية الهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة الغربيّة ونقف على أبواب عالم مُتَعَدِّد الأقطاب”، ولكنه لم يجد حلاً لمواجهة ذلك سوى أن يضيف نصيحة “الحكيم” المعتادة في هذا المجال قائلاً: “على الغرب ألا يسمح للصين بالتفوّق العسكري”، لكنه وككل “الحكماء” من أمثاله لم يقُل كيف يمكن للغرب أن يفعل ذلك دون حرب كبرى لا يمكن أيضاً ضمان نتيجتها؟!، إذاً لا بد هنا من استحضار ميزة “الصبر الاستراتيجي” أيضاً.
محصلة هذا الكلام، “اللوموندي” و”البليري”، ليست أقلّ من تبيان اتساع الاعتراف الغربي بالزلزال الاستراتيجي الكبير الذي يهزّ العالم انطلاقاً من الجغرافيا الأوكرانية، والاعتراف أيضاً، ولو غير المباشر، بـ”الهشاشة التي وصلت إليها الإمبراطورية الأميركية، وظهّرتها حرب أوكرانيا”، والاعتراف، أيضاً وأيضاً، بأن “النظام الدولي” الناتج عن معادلات الحرب العالمية الثانية قبل أكثر من سبعين عاماً، قد بلغ سن الشيخوخة، وبالتالي وُضع على سكة “النشأة المستأنفة” وفق قوانين “طبائع العمران” التي حدّدها قبل قرون عدّة جدنا الكبير “ابن خلدون”.
أوروبا ذاتها، بدولها المختلفة، بدأت تعي ذلك. الأصوات تتعالى في أروقتها السياسية -وإن كانت مغلفة بتحفّظات واضحة حتى الآن- محذّرة من أن ما يجري، لهذا “النظام” في “مضمارها”، ستكون نتيجته الأكيدة تغيّرات في “الهندسة الأمنية القائمة” في جغرافيتها. خلع –وليس خروج- دول مثل سويسرا قناعها الحيادي التاريخي السابق، والكاذب، دليل كبير على التغيّرات الحاصلة في جسد هذا “النظام العالمي”، إذاً ما الذي يجبر بقية دول العالم، وخاصة تلك الساعية إلى إعادة التوازن إليه، كي لا نقول تغييره، على المحافظة على “صبرها الاستراتيجي” السابق و”تبعيتها” و”احترامها” لـ”استضافة” دول الغرب لكل مؤسسات منظمات الأمم المتحدة المهمة -وبالتالي سيطرتها الفعلية عليها- على اعتبار أن هذه الأخيرة، أي الأمم المتحدة، نتاج مباشر للنظام العالمي القديم، وحارس “أمين” له أيضاً، وخاصة أن بعض هذه الدول المستضيفة لمقرات هذه المنظمة أعلنت “طلاقها” البائن مع حيادها المزعوم؟!.
ذلك هو سؤال المرحلة وجوابها القادم أيضاً.