ما مصلحة سورية بتحرير عملتها الوطنية.. وهل من تجربة ناجحة لتحرير سعر الصرف؟
لا يوجد خلاف بين الاقتصاديين على تعريف “تعويم العملة” أو “سعر الصرف العائم”، فهو إما أن يكون تعويماً خالصاً يُترك تحديد سعر الصرف لقوى السوق وآلية العرض والطلب بشكل كامل وتمتنع الدولة عن أي تدخل مباشر أو غير مباشر، أو تعويم مُوجه يتم ترك تحديد سعر الصرف لقوى السوق وآلية العرض والطلب، لكن الدولة تتدخل (عبر مصرفها المركزي) حسب الحاجة من أجل توجيه الأسعار في اتجاهات معينة من خلال التأثير في حجم العرض والطلب على العملات الأجنبية.
باختصار فإن تعويم العملة يعني تحريرها من قبضة الدولة، وبالتالي فالسؤال المهم: متى ينجح تعويم العملة ومتى يفشل..؟
أما السؤال الأكثر أهمية فهو: ما مصلحة سورية بتحرير عملتها الوطنية، وماذا بعد التعويم؟
سبق وأن طالبنا دعاة الخصخصة في سورية بالإجابة على سؤال واحد فقط: ماذا بعد الخصخصة؟
ولا نعني الخصخصة بمفهومها التقليدي أي بيع شركات القطاع العام للقطاع الخاص، وإنما بمفهومها الواسع، فهناك عشرات الأنواع من الخصخصة، التشاركية قطعة واحدة منها!
وبالتالي فإننا أيضاً نريد إجابة واحدة من دعاة التعويم أو تحرير العملة: ماذا بعد التعويم؟
وبما أن تجارب الدول غير الرأسمالية الغربية في الخصخصة قادتها إلى أحضان صندوق النقد الدولي، أي إلى الحضن الأمريكي، وأغرقتها في الديون، والأمثلة القريبة منا هي لبنان ومصر وتركيا، فإننا نطرح السؤال المهم جداً: هل من تجربة ناجحة لتعويم العملة حتى في الدول الرأسمالية الغربية؟
وتعد تجربة تعويم العملة التي شهدتها الولايات المتحدة الأميركية في أوائل فترة الثمانينات من القرن الماضي، من خلال اتجاهها نحو تطبيق نهج الفوائد المرتفعة باعتبارها وسيلة لممارسة عملية التعويم وتنفيذها، من أهم وأشهر تجارب نظام تعويم العملة على مستوى العالم، إذ كان لهذا النهج النقدي المتبع دور في بلوغ الأهداف المنشودة آنذاك، وعلى رأسها جذب رؤوس الأموال للتمويل لسد عجز الميزانية والنفقات المخصصة لحرب فيتنام ومشروع حرب النجوم.
غير أن اتباع نهج تعويم العملة أدى أيضاً إلى رفع تكاليف الاستثمار بسبب ارتفاع سعر الفائدة، مما نتج عنه تضرر المصدرين الأميركيين نظراً لارتفاع أسعار سلعهم بالعملات الأجنبية، وبالتالي حدث انحسار اقتصادي، إلى أن لجأت الإدارة الأميركية إلى تطبيق سياسة عكسية.
انعدام الرقابة تسبّب الكوارث
وتعود نظرية تعويم العملة لاقتصاديين استندوا في مطالبتهم بتطبيقها على السوق الليبرالية وفي مقدمتهم ميلتون فريدمان، ورأوا أن تحرير جميع الأسعار (سلع وخدمات وفائدة وأجور ونقد) وترك تحديدها للأسواق من دون أي تدخل أو توجيه من الدولة يضمن دائما الوصول إلى حالة التوازن..فهل هذا صحيح..؟
الواقع الاقتصادي أثبت العكس، فغياب الرقابة عن الأسواق يقود دائماً إلى الكوارث حتى في أعتى الدول الرأسمالية، وأزمة الرهن العقاري في أمريكا هي نموذج حي، لم يتم تدارك أثارها إلا بتدخل الدولة..!
وبرأي أنصار تعويم العملة أن أي عجز تجاري سيؤدي إلى طلب مكثف على العملات الأجنبية مما سيؤدي إلى انخفاض قيمة العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، وبالتالي إلى تعزيز القدرة التنافسية للبلد المعني، وهذا كفيل حسب قولهم بزيادة الصادرات والحد من الواردات فيعتدل بذلك عجز الميزان التجاري ويعود إلى حالة التوازن، والمنطق نفسه يعمل في اتجاه معاكس في حال وجود فائض تجاري.
لاحظوا أننا أمام تنظير أكاديمي فلا توجد دولة حتى في الغرب الرأسمالي ينطبق عليها هذا التنظير..!
أمريكا فرضت التعويم
وفي الواقع إن تعويم العملة لم يُطرح إلا بعد أن أطاحت الولايات المتحدة في عام 1971 باتفاقية (بريتون وودز) التي أرست منظومة نقد دولية تقوم على أسعار صرف ثابتة بين العملات لكنها قابلة للتعديل، وكان كل 35 دولاراً أمريكيا يُعادل أوقية ذهب.
وبعد انهيار (دولار الذهب) أصبح الحفاظ على سعر صرف ثابت مقابل الدولار أمراً غاية في الصعوبة بالنسبة للعديد من القوى الاقتصادية في العالم، فبدأت هذه الأخيرة باعتماد أنظمة صرف عائم تترك بمقتضاها حرية تحديد قيمة العملات الأجنبية للسوق بناء على قانون العرض والطلب، وهذا يعني أن أمريكا هي من فرضت تعويم العملة في العالم خدمة لهيمنة اقتصادية مطلقة على التجارة العالمية بعدما لم تعد ملزمة بتبديل الدولار إلى ذهب.
وبدلاً أن يقود التعويم إلى التوازن فإنه تسبب باختلال بمستويات قياسية لا تزال عصية على المعالجة في الكثير من دول العالم وتسبب بكوارث اقتصادية في دول أخرى.
وإذا كانت الولايات المتحدة وبلدانا أوروبية تعرضت لحالات عجز تجاري هيكلي منذ عدة عقود مقابل دول تشهد فائضاً تجارياً هيكلياً مثل الصين وألمانيا واليابان فماذا نتوقع من دول نامية طبقت التعويم..؟
نعم، التعويم لم يحقق هدفه أي التوازن لأية دولة حتى الآن، ولم يضمن إعادة التوازن للعلاقات التجارية الدولية، بل يمكن الاستشهاد بعشرات الدول التي شهدت حالات من عدم الاستقرار النقدي بسبب التقلبات المستمرة لأسعار الصرف ومعدلات تغيرها الكبيرة التي لا تخضع لأي منطق عقلاني !!
ليس منقذاً ولا حلا سحرياً
وبات مألوفاً ارتفاع الأصوات المطالبة بالتعويم في الدول التي تشهد اضطرابات مالية واقتصادية وفقدان البنك المركزي لسيطرته على سوق النقد الأجنبي، وزيادة العجز التجاري وانكماش الاستثمار الأجنبي وتراجع الصادرات ..الخ، أي يُنظر إلى التعويم في مثل هذه الحالات كمنقذ أو حل سحري لإعادة التوازن للاقتصادات المضطربة.. فهل هو فعلاً حل اقتصادي أو سحري للتخلص من الاضطرابات والعودة إلى الانتعاش المالي والتجاري والاقتصادي..!
لقد حررت الصين والهند والبرازيل والأرجنتين وماليزيا ومصر والمغرب والعراق والسودان سعر صرف عملتها الوطنية خلال السنوات والعقود الماضية، فماذا كانت النتيجة..؟
باستثناء الصين والهند وبفضل صادراتهما المرتفعة جداً.. أخفقت جميع الدول بتحقيق أي نتائج إيجابية ومثمرة من تعويم العملة، بل إذا استندنا إلى الهدف الرئيسي من التعويم وهو إعادة التوازن للتعاملات التجارية، فإن الصين أخفقت أيضاً لأنها تشهد اختلالاً هيكلياً لجهة فائض ميزانها التجاري..!
والسؤال: ما مصلحة دول نامية مثل سورية لتعريض عملتها لتغيرات في سعر صرفها عدة مرات في اليوم وهي لا وزن لها على صعيد التجارة الدولية وتكاد تستورد كل احتياجاتها السلعية..؟
لقد أدى تحرير سعر الصرف في مصر مثلاً وبفعل ظروفها الاقتصادية الصعبة إلى نسب تضخم بلغت 35 في المئة بعد التعويم بشهور قليلة مع ركود اقتصادي، وارتفاع بمستويات البطالة..!
الخلاصة
المشكلة في سورية ليست بتحرير أو بتثبيت العملة، وإنما بتوافر القطع الأجنبي، وعندما كانت سورية تصدر النفط ومكتفية ذاتياً من السلع الرئيسية كان لديها احتياطي كبير من القطع، ولم يتجاوز الفرق بين سعر الدولار الرسمي والأسود الثلاث ليرات على مدى عقدين من الزمن، وبعد أن تعود سورية إلى تصدير النفط وإلى نهج الاعتماد على الذات فسيستقر سعر صرف العملة عند مستوياته الحقيقية، وتتقلص سوق المضاربات إلى حدودها الدنيا..!
علي عبود