تهميش الكفاءات والخبرات مسلسل مستمر! مشكلتنا في سوء الإدارة وليست بضعف وقلة الإمكانات!
البعث الأسبوعية – غسان فطوم
تثبت الأيام بوقائعها وتفاصيلها أن مشكلتنا لم تكن يوماً في قلة الموارد والإمكانات، وإنما في سوء إدارتها وتوظيفها بالشكل المناسب، فقبل الـ 2011 كنّا نعيش مرحلة متقدمة في الاقتصاد حققنا خلالها الاكتفاء الذاتي، لكننا لم نحسن استثمارها أو توظيفها في بناء مشاريعنا الإستراتيجية، وقد ازداد الأمر وضوحاً خلال سنوات الحرب المستمرة منذ أكثر من /11/ عاماً صادفنا أو ابتُلينا خلالها بالكثير من النماذج الإدارية المترهلة التي لم تكن على قدر الثقة التي منحت لها فزادت “الطين بلّة” في وقت نحتاج فيه إلى كل جهد مخلص للخروج من الحرب وتطويق آثارها المدمرة بأقل الخسائر.
كلام سبق وأشرنا إليه أكثر من مرة عبر هذا المنبر في محاولة لإعادة ترتيب أوراقنا وتحديد أولويتنا بما يخفف على الأقل من هول مفرزات الحرب وآثارها التي طالت كل شيء!
لم يُصيب الهدف!
ها نحن دخلنا النصف الثاني من هذا العام، ولو تحقق نصف ما كان يقوله أصحاب القرار ما كنا لنشكو اليوم، فالكلام المعسول الذي أُطلق على المنابر في كل مناسبة لم يُصيب الهدف لا من قريب ولا من بعيد إلا ما ندر، ما يعني كان عديم الفائدة، لتستمر بذلك أزماتنا وتنفتح على كل الاحتمالات، خاصة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية التي لا يمكن التنبؤ بمصيرها، لكن المتفق عليه هو ما خلفته من آثار سلبية خطيرة على الوضع الاقتصادي في العالم الذي يعيش اليوم حلة من الركود المخيف الذي يشي بكوارث اقتصادية قادمة.
لم يطرأ تحسن!
برأي الدكتور غالب صالح الخبير الاستراتيجي أنه بالرغم من كل التشريعات والقوانين والقرارات التي صدرت بخصوص الوضع الاقتصادي وكل ما يتعلق بالشأن العام، لكن لم يلحظ المواطن أي تحسن في أداء المؤسسات، معللاً السبب بتهميش أصحاب الخبرات والكفاءات مما ساهم في وصول الأشخاص غير المؤهلين إلى مواقع ومفاصل إدارية هامة وحساسة، مؤكداً أن مؤسساتنا بأمس الحاجة اليوم لكفاءات وخبرات إدارية مبدعة من ذوي الانتماء والتفاني في العمل ويملكون روح المبادرة والقدرة على إبداع الحلول للمشكلات العالقة واتخاذ القرار الجريء.
وتساءل الدكتور صالح: لماذا حوّلنا المواطن إلى حقل تجارب وننقله من أزمة لأخرى في زمن نحتاج فيه للاستثمار الجيد لعامل الوقت والتصرف بحكمة وفق الإمكانات المتاحة في ظل هذه الظروف الصعبة التي تحتاج لأنموذج إداري عصري يجنبنا الكثير من المطبات.
وطالب الخبير الاستراتيجي بدور أكبر للإعلام الوطني يجعله مرآة حقيقية للواقع عبر خطاب إعلامي شيّق تتاح أمامه كل المعطيات كما هي، وتزويده بالأرقام الصحيحة حتى نتمكن من رسم خططنا التنموية على المدى القريب والبعيد بما يحقق الهدف منها بالسرعة القصوى.
تفشي الفساد
بدوره يعلل الدكتور المهندس سليمان محمود افتقادنا لحلول للأزمات المتتالية بأسباب كثيرة، أولها، عدم وجود الآلية الصحيحة في وضع الرجل المناسب في المكان المناسب وتفشي الفساد الإداري في غالبية المؤسسات وسط غياب المساءلة، مشيراً إلى الترهل في العمل الوظيفي الذي أصبح مجرد روتين يومي ممل خالٍ من الإبداع، إضافة إلى عدم توفر فن الإدارة الحديث والرشيق لدى البعض في مفاصل القرار، حيث اكتفوا باجترار الحلول والأساليب التقليدية المملة وعديمة الجدوى في حل القضايا العالقة دون توفر إرادة تعمل أكثر مما تتكلم.
بناء العقول
ولم يتردد عميد المعهد العالي للتنمية الإدارية بجامعة دمشق الدكتور سامر المصطفى بالقول أنه لا توجد لدينا أصلاً إدارة للموارد البشرية في مؤسساتنا الحكومية تطبق المفاهيم والمبادئ الصحيحة التي توصلنا إلى تحقيق الأهداف، مؤكداً على أهمية بناء واعمار العقول قبل أي عنصر آخر من عمليات بناء المهارات المطلوبة للموارد البشرية.
حالة عكسية!
ويشير الدكتور مصطفى أن مشاكلنا التي نعاني منها ناتجة عن عدة عوامل، فحسب قوله: تم وضع قوانين لتنظيم وتسهيل العمل، غير أنها أدت وظيفة عكسية بعرقلته، نتيجة عدم تطبيقها بشكل صحيح، بالإضافة إلى الاستمرار بوضع الرجل البعيد عن التخصص بمكان المتخصص حامل الشهادة والمدرب والمؤهل جيداً، حيث أننا لم نضع معايير لمن يتولى الموقع الإداري!، وما يُعقد الأمور أكثر هو استمرار الاعتماد على تجارب الآخرين المختلفين عنا في بيئة العمل وقيمها، والمطالبة بالكثير من المهام دون أن نوفر المتطلبات الأساسية لانجازها وفق خطط وبرامج ذات جدوى، وطالب عميد المعهد العالي للتنمية الإدارية تفويض المديرين باتخاذ قرارات بدلاً من حصرها بالمركز، وذلك من أجل تيسير الأمور بعيداً عن الروتين القاتل المعرقل لأي مبادرة لمدير مجتهد لديه أفكار مبدعة داعمة للعمل وتطويره والارتقاء به إلى أعلى مستوى، كما طالب باستبدال اللجان التي تشكّل لكل مشروع، بفرق عمل حقيقية تعمل على الأرض بدلاً من الغوص في بحر التعقيدات الإدارية الناتجة اجتماعات استعراضية معرقلة لانجاز أي مشروع!.
حلول تأزيمية!
وبرأي طلبة الدراسات العليا في اختصاص الإدارة في كلية الاقتصاد أنه من الطبيعي وبعد أكثر من عشر سنوات حرب أن نغرق في بحر من المشكلات في مختلف المجالات وتفتح علينا أبواب الأزمات على مصراعيها بسبب افتقادنا لخبرة اتخاذ القرار المناسب، لكن من غير الطبيعي والمقبول –حسب قولهم- أن تكون الحلول تأزيمية بدلاً من حل الأزمة وانفراجها على مختلف الصعد!.
إعادة الحسابات
ويرى العديد من الخبراء الاقتصاديين أن الحرب الأوكرانية هي فرصة لإعادة الحسابات، وأن الأزمات الاقتصادية المتكررة تتطلب دراسة متأنية لكل قرار وتوقع لانعكاساته على المدى البعيد وليس الاكتفاء فقط بما يحققه من حلول آنية، مؤكدين على أن الإصلاح الإداري لا ينبغي أن ينحصر فقط في تبسيط الإجراءات، وتسريع وتيرة انجاز الخدمات في مؤسسات الدولة بل يجب أن يركز على حسن إدارة مواردنا البشرية، فهي اليوم أقرب لإدارة أفراد وليس إدارة موارد بشرية واستثمارها في عملية التنمية التي تحتاج اليوم للكثير من الجهد.
بالمختصر، كل المؤشرات من حولنا توضح أننا لسنا في أتم الجاهزية للانطلاق في الإصلاح الإداري الذي ينقلنا من حال سيء إلى حال أفضل بما يحقق “النهوض الشامل في الأداء الإداري والعمل المؤسساتي للوزارات والهيئات والمؤسسات العامة في المرحلة القادمة ومكافحة الخلل الإداري بكل جوانبه” وذلك بحسب ما جاء في أهداف مشروع الإصلاح الإداري، لذا أن أهم ما نحتاجه هو إدارة ناجحة للتنمية البشرية، فالإدارة هي فن الحياة بل الحياة نفسها بكل مجالاتها، فحاجتنا اليوم كبيرة لتعميق المعرفة الإدارية وتطويرها وتأهيل جيل من القادة الإداريين وتوليد الأفكار الإبداعية التي تساهم في حل المشكلات بل من تأزيمها!.