الاستراتيجية الروسية في مواجهة الغرب المتخبط
البعث الأسبوعية- ريا خوري
نتيجة لسخونة المواقف السياسية الحادة بين دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) وروسيا قبل بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تعالت العديد من الأصوات في مراكز القرار السياسي في الدول الغربية تحذر من مخاطر قيام الحرب وانعكاساتها السلبية على أوروبا، ترافق ذلك مع ما أنتجته العديد من مراكز الأبحاث والدراسات الغربية المتخصصة من دراسات تنذر بحدوث كوارث عديدة إذا ما نشبت الحرب في أوكرانيا، لأن انعكاساتها ستكون سلبية للغاية على أوروبا.
لو أن الدول الغربية أظهرت تفهماً أكثر للمخاوف الأمنية الاستراتيجية الروسية نتيجة تمدد حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالقرب من حدودها الجغرافية وحول حديقتها الخلفية لما حصل ما تحصده أوروبا اليوم من أزمات، فقد ظلت روسيا تحاول الحصول على تطمينات من الحلف بعدم توسعه على حدودها وخاصة من خلال ضم المزيد من دول أوروبا الشرقية إلى الحلف، وهكذا فقد كانت أوكرانيا الدولة المرشحة للانضمام إلى الحلف وهي التي استفزت روسيا بشكل مباشر، وهذا الأمر لم تستطع روسيا أن تتحمله أو تقبل به على الإطلاق. ومع ذلك، فإن الحرب أصبحت واقعاً لا محالة، ومن غير المجدي الآن التباكي على ضياع فرصة تجنب تلك الحرب.
إن سوء تقدير الدول الغربية لا يقتصر فقط على عدم بذل جهد كافٍ لتجنب الحرب وعدم حدوث كوارث عالمية، بل يتمثل أيضاً، حسبما يبدو، فى نوع وطبيعة الإجراءات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي تم اتخاذها من قبل الدول الغربية تجاه روسيا، واتخاذ العديد من الإجراءات بهدف الضغط عليها لإجبارها على وقف الحرب الساخنة في أوكرانيا، وكان من تلك الاجراءات أن عمدت إلى مقاطعة استيراد النفط والغاز الروسيين، وكذلك الأسمدة والمواد الغذائية، وبعض المعادن الهامة للصناعات الغربية، كما قاطعت تعاملات عدد كبير من البنوك الروسية من خلال عزلها عن نظام المدفوعات المالية العالمية.
الواضح تماماً في جوهر هذا الصراع أن المعركة بين الأطراف المتنازعة غير متكافئة، وأن روسيا القوية اقتصادياً وعسكرياً ماضية في تحقيق أهدافها دون تردّد على الرغم من حجم العقوبات الاقتصادية عليها، وعلى الرغم من كل التهديدات، وهذا ما دفع الكثيرين للمطالبة بوقف الحرب الدائرة في أوكرانيا لأن انعكاساتها السلبية للغاية على أوروبا لم تكن متوقعة. كما تساءل كثيرون في الغرب عن جدوى معاقبة روسيا اقتصادياً بعدما حصدوا خيبة آمالهم، وهل تلك الإجراءات التي قاموا بها قادرة على ردع روسيا عن الاستمرار فى الحرب، أو إضعاف اقتصادها القوي بشكل يجبرها فى النهاية عن عدم مواصلة المعركة؟.
في حقيقة الأمر، إن اقتصاد روسيا ما زال قوياً ولم يتضرر كثيراً، بل على العكس من ذلك فإن روسيا استفادت الى حدٍ كبير من تلك الإجراءات، إذ إن مقاطعة الطاقة الروسية من نفط وغاز أدّت الى ارتفاع سعر النفط عالمياً، الأمر الذي عوض روسيا عن النقص في صادراتها النفطية وهذا أمر هام. كما أن المقاطعة الغربية التي ساهمت برفع أسعار النفط عالمياً أدى إلى تضرر الكثير من اقتصادات العالم الصناعي، وبخاصة اقتصادات الدول الغربية التي تعتمد على النفط والغاز.
إن الخطط الاستراتيجية التي وضعتها القيادة الروسية لعمليتها كانت قد أثمرت خلال وقت قياسي، فقد استفادت روسيا من المقاطعة فى تعزيز قوة عملتها (الروبل) التي ارتفعت بشكل كبير بعكس ما كانت قد استهدفته مقاطعة الدول الغربية. ووفقاً لبعض التقديرات، فإن العملة الروسية (الروبل) ارتفعت بحوالي أربعين بالمائة في مقابل الدولار الأمريكي منذ بداية هذا العام. كما قدر معهد التمويل الدولي أن الحساب الجاري لروسيا سوف يحقق فائضاً هذا العام بمقدار مئتان وخمسون مليار دولار، أي ما يعادل حوالي خمسة عشر بالمائة من الناتج الإجمالي المحلي لروسيا في العام الماضي، وهو ما يمثل أكثر من ضعف الفائض المقدر بمبلغ مائة وعشرون مليار دولار الذي حققته روسيا العام الماضي.
فى المقابل، نجد العديد من الدول الغربية بل جميعها تضررت كثيراً من ارتفاع أسعار النفط والغاز، كما أنها لا تبدو جميعها متفقة حول هذا الوضع السيئ الذي باتوا فيه، وأن هناك انقساماً واضحاً وكبيراً في الموقف تجاه المقاطعة الغربية لروسيا. كذلك فإن عدد من زعماء أوروبا فقدوا الدعم الشعبي، وواجهوا العديد من الاحتجاجات عبر وسائل الإعلام والنقابات والجمعيات، وأصبح هؤلاء القادة غير قادرين على اتخاذ قرارات مهمة لصالح بلدانهم، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد أن فقد الأغلبية المطلقة في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي جرت في فرنسا، لم يعد يستند إلى شرعية قوية تمكّنه من اتخاذ قرارات مهمة ومصيرية، كذلك الحال مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي اضطر الى الاستقالة على ضوء العديد من المشاكل والفضائح التي واجهها نتيجة اندفاعه ضد روسيا ومواقفه منها.
لذلك، فإن جبهة الدول الغربية برمتها لا تبدو متماسكة أو قوية، وإنها غير قادرة على تحقيق انتصار سريع على روسيا التي ازدادت قوةً في هذه المواجهة. من ناحية أخرى، وعلى الصعيد الاقتصادي، بدأت الدول الأوروبية جميعها وبنسب متفاوتة تعاني نقصاً حاداً في إمدادات استيراد حاجاتها من الغاز والنفط، وبدأ البعض منها يتجه الى العودة لاستخدام الفحم الحجري الذي أوصى مؤتمر المناخ الأخير بعدم استخدامه، حيث كان هذا الإجراء لسد العجز فى حاجاتها من موارد الطاقة من نفط وغاز بعد أن قررت روسيا تقليص صادراتها من الغاز.
لقد ظهرت في الآونة الأخيرة بعض الأصوات الصادرة من بعض الدول الغربية تحذّر من خشية أن تلاقي المصير نفسه الذي لاقته أوكرانيا، خاصة أنها اعتقدت بأنها قد نسيت أو تناست الحروب والمعارك، وودّعتها مع نهاية الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥ .
تساؤلات كثيرة مازالت تطرح في أوساط مختلفة من القيادات والفعاليات الاقتصادية والسياسية الأوروبية حول هل كان في الإمكان تجنب هذه الحرب وتداعياتها واستطالاتها واستحقاقاتها. في واقع الأمر لا يمكن الجزم بذلك، ولكن من خلال المتابعة لمجريات الأحداث يبدو أنه لم يتم بذل جهود دبلوماسية كافية لمحاولة تفهم مخاوف روسيا الأمنية والإستراتيجية المترتبة على انضمام مزيد من الدول لحلف شمال الأطلسي (الناتو) على جزء مهم من حدود روسيا الشرقية.
وهنا يفرض التساؤل الهام نفسه هل فات أوان وقف هذه الحرب الساخنة ؟. لا يعتقد ذلك، لأن المسار الدبلوماسي أصبح اليوم أكثر تعقيداً وكأن الأبواب مازالت موصدة، لأنه في أية مفاوضات قادمة لحل الأزمة العالمية على الأرض الأوكرانية ستفاوض روسيا من موقف قوة اقتصادية وعسكرية وإستراتيجية، وعلى الدول الغربية أن تكون على استعداد لقبول الكثير من التنازلات المؤلمة التي يمكن أن تكون أكبر من أي تنازلات سهلة ومقبولة كان يمكن القبول بها قبل نشوب هذه الحرب.