معركة ميسلون.. رسخت مفهوم الصمود والمقاومة
د. معن منيف سليمان
تعدّ معركة ميسلون التي وقعت في الرابع والعشرين من شهر تموز عام 1920، الصرخة الأولى في وجه المستعمر الفرنسي، وفاتحة عصر جديد في تاريخ سورية، هو عصر الثورات الشعبية التي عمّت أرجاء الوطن، وحوّلت الأرض إلى شعلة ملتهبة أحرقت جيش الاحتلال، وأجبرت المستعمر على الجلاء في السابع عشر من نيسان عام 1946 عن أرضنا.
في تلك المعركة، زرع القائد البطل يوسف العظمة أول بذرة في التضحية والفداء ضد جحافل المستعمر المتفوق عدداً وعتاداً، وأصرّ على المقاومة بأي ثمن، يحدوه إلى ذلك حب الوطن وعشق الحرية، فأعلن وهو يخوض معركة غير متكافئة جرت مع جيش الاحتلال في ميسلون قائلاً: “لن ننسحب ولو متنا عن آخرنا، ومروا على أجسادنا، فنحن لا نحب أن نراهم يدوسون تراب الوطن، وإن كنا نعرف أن قواتنا أقل من جيشهم بكثير، ولكن إيماننا بأنفسنا أقوى”.
لقد أسفرت الظروف السياسية والأحداث التاريخية بعد الحرب العالمية الأولى عن ولادة دولة عربية حديثة في سورية بحدودها الطبيعية في 8 آذار عام 1920، وتشكلت حكومة وطنية، ونُصّب الملك فيصل بن الحسين ملكاً عليها، وكان ذلك قد أثار غضب الاستعمار الغربي المتمثل وقتذاك بفرنسا وبريطانيا الذي كان قد أعدّ مشاريع استعمارية قسّمت المشرق العربي، وهذه المشاريع بدأت بمعاهدة بطرسبورغ عام 1915، مروراً بمعاهدة سايكس- بيكو عام 1916، ثم باتفاقية باريس عام 1919، وانتهاءً بمؤتمر سان ريمو عام 1920، الذي قضى بوضع سورية ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، ووضع فلسطين والعراق تحت الانتداب البريطاني.
وتنفيذاً لشروط تلك المعاهدات الاستعمارية، شرعت فرنسا باتخاذ وسائل الهجوم للسيطرة على المنطقة الشرقية التي تمثل منطقة نفوذ الدولة السورية الفتية لإرغامها على القبول بالانتداب والخضوع لإرادته، فأرسلت حملة عسكرية كبيرة مجهزة بأحدث العتاد الحربي من مدافع ودبابات وطائرات بقيادة الجنرال “هنري أوجين غورو”.
بدأ الاحتلال الفرنسي لسورية بدخول القوات الغازية لمدينة طرطوس أواخر عام 1918، وبعد ذلك باحتلال مدينة حلب في تموز عام 1920، ثم أخذوا بالتوسّع في المدن والقرى على حساب الدولة السورية الناشئة، حتى وصلوا حدود مدينة دمشق عبر جبال لبنان، لتبدأ وقائع معركة ميسلون والملحمة البطولية التي سطّرها يوسف العظمة الذي شغل لتوّه منصب وزير الحربية.
بدأت أحداث معركة ميسلون عندما وجّه الجنرال غورو، قائد الحملة الفرنسية على سورية، إنذاره المعروف باسمه، إلى الحكومة العربية الفتية التي لم تمض على قيامها بضعة أشهر، وقد نصّ على الشروط الآتية:
- وضع سكة حديد رياق- حلب تحت تصرف الجيش الفرنسي.
- تسريح الجيش السوري وإلغاء التجنيد والتطوع.
- قبول الأوراق النقدية الفرنسية.
- معاقبة الثوار الذين استرسلوا في معاداة فرنسا.
واشترط الجنرال الفرنسي تنفيذ هذه الشروط قبل الثامن عشر من تموز، لكن جيشه بدأ يستعد للزحف خلال المهلة الممنوحة للدولة السورية، ما يؤكد أن ادّعاء غورو أن البرقية وصلت بعد انقضاء الوقت المحدّد، كان ذريعة واهية لاجتياح سورية وإجهاض استقلالها والقضاء على آمالها في الحرية، وعلى الرغم من ذلك، فقد قبل الملك فيصل مع معظم وزرائه شروط الإنذار والاستسلام للغزاة، وأبرق إلى الجنرال غورو بالموافقة كما سلف القول، وأوعز بحلّ الجيش الوطني من الخدمة.
أما وزير الحربية البطل يوسف العظمة، فقد أصرّ على المواجهة، إيماناً منه بأن الشعور الوطني يأبى على المرء أن يسلّم بلاده للغزاة، دون أن يستنفد قواه في دفع العدوان، وأن الشعب يلحّ في طلب الدفاع عن وطنه، ويعلن التفافه حول جيشه والسير معه نحو الهدف المقدس، وهذا التأييد الشعبي قوة معنوية لا يُستهان بها، كما أن القتال، وإن طال، واستطاعت القوات السورية أن تنال من القوى الغازية بعض المنال، فإن ذلك يفتح المجال للمفاوضة، ويعزّز موقف المفاوض السوري فيحرز شروطاً أفضل.
وانطلاقاً من هذا المبدأ، جمع البطل يوسف العظمة حوله عامة الناس من المتطوعين ليقوموا مقام الجيش النظامي المسرّح، وقرر أن يموت شامخاً على رأس جيشه، مرفوع الهامة في وجه الغزاة المحتلين، فأعلن نداءه الشهير للمسرّحين من الجيش لكي يتطوعوا للدفاع عن الوطن، وأعلن الشعب السوري عن استعداده لكل أنواع التضحية والفداء بكل ما يملك من إمكانات، وإن كانت متواضعة، فقامت مظاهرات صاخبة في دمشق والعديد من المدن السورية، وأقبلوا على التطوع في الجيش الوطني والتبرع بالمال، والاستعداد لخوض معركة الشرف، معلنين رفضهم لشروط الإنذار الفرنسي ووقوفهم إلى جانب يوسف العظمة.
توجّه المتطوعون إلى قلعة دمشق، وفتحوا أبوابها، واستولوا على الأسلحة والذخائر، ثم سار هؤلاء الأبطال بقيادة يوسف العظمة إلى ميسلون في فجر يوم السبت 24 تموز عام 1920، وانتشروا على طول جبهة القتال ما بين قرية جديدة يابوس ومخفر خان ميسلون الحالي على جانبي الطريق العام دمشق- بيروت، وعلى مرتفعات “عقبة الطين” على بُعد 700 متر من نبع ميسلون الحالي، وهذه المنطقة من أكثر المناطق وعورة.
كان عدد الذين اشتركوا في القتال نحو 3000 مقاتل لا يملكون من العتاد سوى 15 مدفعاً و25 رشاشاً، بالإضافة إلى عدد من الأسلحة الخفيفة الفردية، حتى إن القنابل والألغام لم يكن منها سوى عدد ضئيل محلي الصنع ودون أية تغطية جوية، وبالمقابل بلغ عدد الجيش الفرنسي نحو 9000 جندي بقيادة الجنرال الميداني غوابيه، يعاونه رئيس الأركان الجنرال بيتلان، ويمتلك هذا الجيش أسلحة متطورة من مدافع مختلفة العيارات، ودبابات حديثة وثلاثة أسراب مقاتلة وسرب استطلاع يحتوي على 18 طائرة.
وهكذا دارت رحى القتال في ميسلون، وجرت معركة غير متكافئة استُشهد من المقاومين عدد كبير بعد أن ألحقوا بالغزاة خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وقد قدّر للقائد يوسف العظمة أن يستشهد في المعركة، ويروي تراب ميسلون بدمه، فدفن في المكان نفسه الذي استشهد فيه ليروي لأجيال المقاومة التي تعشق الحرية قصة نادرة في البطولة والتضحية والفداء من أجل حرية الوطن وكرامته وشرفه.
قدّمت ميسلون درساً مفاده أن وطناً يقاوم المحتلين بأجساد أبنائه وبأسلحة فردية بدائية، يمكن أن يخسر معركة، ولكنه لا يخسر روح المقاومة، ولا ينام على ضيم، فالأمة الحيّة قادرة على أن تنجب الأبطال قوافل تلو قوافل إلى أن يتحقق النصر وترتفع راية الحرية والاستقلال.