السرد الفنّي و”رأس المال”
البعث الأسبوعية- رائد خليل
شكّلت ثمرة التفاحة التي تذوقتها حواء بوحاً وولادة فنية جديدة..فقد بنى الفنانون على هذه “الميثولوجيا” مقولات وعناوين احتفاء.. ولا تخلو هذه المقاربة من شعرية تتغلغل في سرديات النص الفنيالمسربل برؤى بعيدة عن العادي في رحلة التقصي عن مكامن النجوى وأطياف المكان.
وقد توحي الحالة بأن ثمة قصداً متزناً يفسح المجال أمام الإلهام، لعرض سيرة ربط بين الفن والأخلاق، فهو- أي الإلهام- لا يأتي على طبق معشّق بالفضة، بل يستند إلى تراكم معرفي، وهو رأس مال حقيقي في رحلة الكشف والتجلّي.. وخلق أسئلة الوجود الجوهرية للفن بالأساليب التأويلية..!
قد يتصور بعضهم ارتباط المصطلح (رأس المال) بنظرية اقتصادية أممية معروفة، بينما يأتي القصد لحياكة الأثواب الحسية وخياطة الضفاف بخبرة مفتوحة التوجه، ودعوة الأنا إلى حشر الكون في المساحة البيضاء كحالة اختبارأو تدوين تأسيسي لمراحل سردية مألوفة وغير مألوفة.
إذن، تنبض الحالة التدريجية بتوزيع مترامي الأطراف الإبداعية، في نسيج يستقل عربة الشروط الجماليةويروي دهشة المحطات.ويفتح بوابة المدى بكل مضامينه ومساراته..!
لو أردنا اختبار التراكم في تتابع العمل الإبداعي والمنجز المعرفي، لتوقفنا على عتبة التأويل، وأمسكنا بمبضع التشريح من تفكيك وإعادة بناء، بشروح كافية دون إغفال المتون والحوامل.. واستدعاء الدهشة كعامل تعبيري يراد به توحيد النص الفني، وخلق حالة تبهر المتلقي بصرياً ومعرفياً.
هذا الاستدعاء، لا يعني الاختصار، أو تثبيت الحكم المطلق على المنجز.. ولكن القضية أوسع، وتفتح صيغة جديدة منتقاة من جملة الصيغ الجمالية التي تتأتى من تراكم نتاج متوالد بالتقادم، بكل دلالاته وكينونته وقوامه.
هنا، تقودنا الرؤية إلى قراءة الطريقة المنهجية لهيكلة البناء الفني، لا الوقوف على عتبة المضمار، وتقدير مجاله وشكله وآلية التقابل.
“تتخذ المرآة لون الشيء المنعكس عليها، وتستوعب من الصور عدداً من الأشياء الموضوعة أمامها”.. إذن هو توصيف دقيق لعقل الفنانكما يراه “دافنشي”.
هذه ترجمة منطقية عقلية لعظمة الخطوط والعناصر التي تتجاوز “الزمكان” وترسّخ الفيوض وتجذّرها.. وفيوض الإشارات والشواهد ماهي سوى معطيات لاحتواء الجهات.. فالانزياح والرمز، يشكّلان مدخلاً للعبور الذي رآه طاغور مفتوحَ الخيارات على أبواب أخرى وصولاً إلى صناعة باب جديد بالرغم من ظلمة الهوة..وغياب ” الهارموني” في كثير من الأحيان..!
بإمكاننا استقراء مفهوم العائد المعرفي ووضع عناوين التحقق والاتجاهات والهواجس بالإشارة إلى أسئلة المحاكاة والتماهي مع المراحل الديناميكية المواكبة للخطاب الذي يجبل معاني الحياة الواعية لتحقيق الغايات والخوض في غمار التحديات.. فتخطّي الهدف مثل عدم بلوغه…بحسب “الكونفوشيوسية” العظيمة.
الفن والبقعة الصفراء..!
يحوّل الوقوف على حافات السطح و الولوج في البيانات النصية للوحة القراءة إلى متعة مفتوحة على احتمالات تثري الذائقة، وتترك مجالاً للعين الثالثة كي تخلق فضاءً أرحب.
مكوّنات تحفّز العقلوتمسرح الأدواتوصولاً إلى عمق المشهدفي تحريض ذهني واضح دون تأطير.. و يجذّر مفاهيم الكشف عن مكنونات التجريب، والعمل أو السير مع دقائق المطالبة في تلقّف وتلقي المقدمات اليقينية واستنباطها.
هنا، تتوالد أفكار الأثواب المزركشة في تصالح واضح مع الذائقة..وهي مسألة نسبيةليست مطلقة، بل تمسح عنه غبار الانكفاء وتبني مقولة القبول في حدّه الأدنى.
وتُنصبُ في معشر اللون، أوتاد نابضة، تحاكي ترحال الفرشاة وتنقلاتها، في مساحة تزخر بالقيم والإبهار، كشاهد على طبولوجيا القبول، وركيزة حاضرة تحاكي روح المعطى الجديد في المغامرة..حالة تعيد للأذهان النصيحة اليابانية القائلة: إذا أردت تحقيق منجز إبداعي فني ما، فعليك تحقيق عوامل تستند إلى رفعة الروح وحرية الريشة والمقدرة على اختراع الأشياء..هذي النظرية توافق الحداثوي “كيلي” في إعادة الرؤية..وليس نسخه فنياً.
إذن، روافد الخلق، تصبُّ في تضاريس الممكن الذي ينفلت من سلطة التدجين، وتحرر- أي الروافد- كل القيود الذرائعية.
ويشكّل التعبيرُ ترجمة قيّمة لحالات الدهشة والحفاظ عليها، ويعدّ ديمومةً منطوقةً في سبيل ترسيخ البعد بكل تجلياته الحسية. فقد خلقت عوازل القصر الصيني التي نُقشت عليها رسوم الشلالات حالة اضطراب للإمبراطور بسبب الضجيج الكبير الذي أحدثته، فلم يعد قادراً على النوم، على حد تعبيره..!
هذه مقولات التأثر، محاكاة بدوافع شتى، منها الذاتي، وأخرى لها علاقة بالحاجة لتأسيس عناوين بيانية تؤجج التعايش الخلاق بين المتلقي القارئ ومرآة اللوحة العاكسة.
ولو أمعنّا في مقولة “بيكاسو” عن الرسامين الذين يحوّلون الشمس إلى بقعة صفراء، وبعضهم الآخر يحوّل البقعة الصفراء إلى شمس..لأدركنا جوهر التنافس الصاخب بين الروحي والمادي.
فكثيراً ما تبنى حالات التأثر والتأثير على عامل السلف، وتخطّ نظريات الحداثة بناء عليها، ولا تخلو من الوجدانية واستمالة القراءة العاطفية.
هنا، تلعب جغرافية القارئ والفنان معاً الأثر البليغ في ترجمة النص سيكولوجياً واجتماعياً أولاً، ثم الانطباع المفعم بالانفعالات .
ولا ضير في منحه – أي الانطباع- صكوك التبرير أمام المشهدتأكيداً لمنطلقات الحداثة، وتجذيراً جديداً يعطي المناهج مواكبة المتغير.. كالذي ظهر أخيراً أو ما يسمى بالفن الحديث.. لرفد الحركة الفنية، وإبراز الدور الفعال في خلق مساحة مغايرة، بإضافات ممنهجة كوعاء حامل للقيم بكل زخارفها وأبعادها. فالتجديد هنا،ليس وليد المصادفة.. وإنما “ثمرة لقصدٍ حقيقي” على حد تعبير “فان كوخ”.
التكوين الفني..!
لايمكن للمتلقي أن ينأى عن تكوين العمل وأبعاده وتصاويره، لابل هي حالة سفر بين الخطوط للكشف والاستدلال عن كينونة الحالات الوجدانية المرسومة بإيقاع تفاعلي والحثّ على التفكير بصوت عال.
ودائماً تأخذنا الحالات الإنسانية الوجدانية إلى أماكن لم نبصرها من قبل، وإذا كانت غاية فن الكاريكاتور تنويرية، فإن النشوة الحقيقية عندما تأخذنا اللحظة (الومضة) إلى سراديب التفكير المكثف، أو حالة انبهار في تشكيل العمل وتوليفه.
حالات وحالات، وأماكن سوريالية أحياناً، وواقعية في أحيان كثيرة، ولكن يبقى التفاعل والتأثير هما أساسان في رؤية الواقع المفتوح على النوافذ الموجودة في الأفق وما بعده.
وفي عودة إلى تكوين العمل الكاريكاتوري، تذهب بنا المخيلة إلى أقصى درجات المحاكاة لوقائع واستعارات بصرية يبني عليها الفنان( القادر) جملاً وصفية ومحددات أساسية قوامها الحركة والتكوين، والسخرية، والانفعالات، والأساس المعرفي الذي يشكّل موئلاً يعزف فيه رسام الكاريكاتور تقاسيم الابتكار في تنويعات متعددة، شكلية كانت أم حسيّة.
فالعناصر والمحددات، ماهي إلا مفردات مستلهمة من معين التجربة ومعرفة أسرار التغلغل في مكونات العمل الفني المتين الذي يقرّب المتلقي من تفاصيل الحدث المرسوم والموسوم ببراعة تسجيل اللحظات وتأريخها، لا بل يخلق تناغماً في مقولة التأثر والتأثير، وهنا محاولة حقيقية للولوج أكثر في الفكرة ولمح أطيافها على أقل تقدير لتوسيع الأفق وتفتيح الذهن على تفاصيل يتعامل معها فن الكاريكاتور بلغة روحية خالصة تتجاوز كل الحدود في خلق تكوينات جديدة تستند إلى عناصر عدة تنزاح نحو الدهشة وجذب المتلقي إلى تشكيل ممزوج بسرد نصي مفتوح و متوهج.