النورانية الوطنية..!
حسن حميد
قيّض لنا مؤتمر الأدباء والكتّاب العرب الذي عُقد في دمشق مؤخراً أن نعاود اكتشاف جذور المحبة التي يكنّها المثقّفون والمفكّرون والأدباء لسورية التي لا تعريف لها في المعاجم والحياة سوى أنّها: بلاد الحضارة، وبلاد الزراعة الأولى، وبلاد بواكير الأبجدية والقراءة والتدوين.
محبة غامرة، وأشواق لا ضفاف لها رأيناها في عيونهم وأحسسنا بها ونحن نجيب عن أسئلتهم التي دارت حول خوفهم الذي التهمهم وهم يقصّون أخبار الحرب التي فُرضت على سورية بوجوهها متعدّدة الوحشية والعنصرية والدموية، واستطالات هذه الأخبار وآثارها التدميرية التي طالت كلّ وجوه الحضارة السورية من المدارس والمشافي والعمارة والطرق إلى حقول القمح والقطن والمعاصر والطواحين إلى القرى والمدن ودور العبارة ومراكز الثقافة ومؤسّساتها إلى أعماق الوجدان في الصدور السورية التي ظلّت صامدة ثابتة بوجه الإرهاب الوحشي الذي لم يسبق لبقعة جغرافية في العالم، في العصور الحديثة، أن عرفت صوره وطيوفه وترسباته الهمجية.
لقد لمسنا لهفتهم ووعيناها طيّ أسئلتهم، وهم يتأكدون من الأخبار التي سمعوها قبل سنوات، وقد لفّتهم المفاجأة حين عرفوا أن الهمجية الوحشية اجتاحت المناطق والبقاع التي يقفون فوقها الآن، بعد أن أخذناهم إليها، وتساءلوا مندهشين: أحقّاً وصلوا إلى هنا؟! وأين هي آثار وحشيتهم التي تحدثت الأخبار عنها؟! فقلنا إن اليد السورية البانية محت آثارها البشعة بالعمران السوري المعهود. فسألوا: وهل بقي شيء من آثارهم الهمجية، فقلنا: نعم! وسترونها! ولكم سيطر عليهم الحزن حين رأوا جوانب منها، ولكم سمعنا همهماتهم وتمتماتهم وهي تردّد كلمات: الإرهاب، والتوحّش، والدموية.
وكان علينا أن نشرح لهم، وعبر تفاصيل كثيرة، كيف أنّ أمتاراً قليلة، أو ساحة صغيرة، أو مجموعة بيوت أو محال، قضت حراستها والمحافظة عليها أن يستشهد من أجلها شباب هم زهرة حياتنا، ورأوا النوافذ العشوائية المفتوحة في الجدران، وبعضها يقود إلى بعضها الآخر، ورأوا الأشجار والدوالي التي راحت تستعيد دورة الحياة والخصوبة بعد أن قطعوها وحرقوها! ورأوا نباتات وأزهار الشرفات وقد راحت تزدهي بألوانها وعطارتها.
صحيح أنهم عادوا من زياراتهم حزانى، ولكن كان حزنهم مضيئاً لأنهم أيقنوا محبتنا لبلادنا، وعرفوا وجوه الفداء التي تزينّا بها ونحن نواجه الغرباء الوحوش الذين أرادوا تدمير كلّ شيء: الحجر، والشجر، والبشر، والأمل!.
لقد وعوا أن حراسة العقل، وحرارة القلب، وروح الانتماء الوطني لسورية الحضارة، والوعي المكين المتجذّر طوال أزمنة التاريخ وطبقاته المتعدّدة.. كلّها شكّلت الجدار الوطني الذي لم يستطع المنادون بالإرهاب وممارسوه من فتح ثغرة صغيرة فيه، ولولا هذا الجدار الوطني السامي لما انتصرت إرادة السوريين في هذه الحرب التي لم تعنِ سورية وحدها، لا على الصعيد الجغرافي، ولا على الصعيد السياسي، وإنما عنت الدفاع عن معاني العروبة وتاريخها، وعن معاني العروبة ومستقبلها المرتجى أيضاً.
إذاً، لم تكن البلاد السورية، ودمشق على وجه التحديد، مكاناً لانعقاد المؤتمر العام للاتحادات والروابط والأسر العربية التي تضمّ الشريحة الفكرية والثقافية والإبداعية العربية، وإنما كانت فضاءً جغرافياً للانتماء للأمة العربية الواحدة، لكي يتخلّص الواقع العربي من كلّ ما كبّله به الأعداء من خلافات ومناورات ومناوشات، إذ لا عروبة أكيدة في تطلعاتها وأفعالها التّامة وأحلامها العزيزة من دون الشعور العربي الواحد الذي هو قوة لا تعادلها قوة، حين يتفاعل الانتماء العقلي، بما يجيش به القلب العربي.
والأكثر أهمية تجلّى في أنّ ضيوفنا، من أدباء وكتّاب ومفكّرين ومبدعين، عادوا إلى بلدانهم الشقيقة شعراءَ يتحدثون عن الجغرافية السورية الواحدة الموحّدة، والرجولة السورية الباسلة، والعقل السوري الحكيم.. بوصف هذا كلّه المرآة الحقيقية لكلّ ما حدث ودار، فكانت الأحداث مرآة بوجهين: أحدهما وجه أسود ظلامي لممارسات قبيحة وهمجية، وثانيهما: وجه نهاري مضيء بأفعال ماجدة تشقّقت عنها نورانيةٌ وطنيةٌ نعتزّ بها ونفتخر!.
hasanhamid55@ yahoo.com