الجيش«العقائدي»: شرف وضرورة
بسبب الملاءة الماليّة الضخمة لميديا البترودولار، ورواج بيع وشراء الأقلام والعقول المأجورة، وانتشار ودعم ثقافة العمالة والارتزاق، كادت تغيب مع تمدّد سياسات الهيمنة وأحادية القطب، مفردات ومصطلحات كثيرة كانت وطيدة الحضور في مرحلة القطبيّة الثنائيّة أو التوازن الدولي. ومع طروحات المحافظين الجدد منذ أكثر من ثلاثة عقود وثقافة (من ليس معنا فهو ضدنا) وإعلان الأمريكان عن ولادة النظام العالمي الجديد، لم نعد نحظى إلا قليلاً بمفردات (معجم النضال العالمي) التي كانت سائدة وتتم مثاقفتها في البلدان الأفروآسيويّة والأمريكيّة الجنوبيّة. ومع الدعوات المراوغة والنزوع المخاتل نحو الاستقرار الإقليمي، والتعاون والتكامل الدوليين، وسياسات الانفتاح والشراكة… التي اتضح أن أغلبها كان بمثابة كمائن وأفخاخ، مع هذا لم نعد نقرأ أو نسمع بمفردات من أمثال: العقائديّة – المبدئيّة – التحرّر – النضال – الصمود والمواجهة… إلخ، بل أضحت هذه المفردات خارج التاريخ المعاصر، وكأنّها هي خطاب الرجعيّة، في وقت فيه كانت هي أسس سرديّة التقدّم والتحرّر والوعي.
بالأمس ومع طرح القيادة الروسية النقاط الأساسية الخمس لـ (العقيدة) البحريّة الروسيّة، وأهمها اعتبار نهج هيمنة الولايات المتحدة في المحيطات العالمية تحدّياً رئيسيّاً للأمن القومي الروسي، وضرورة أن يعمل الروس على إيجاد عدد كافٍ من القواعد ونقاط التمركز خارج حدود روسيا ولاسيّما في البحرين المتوسط والأحمر، وفي المحيط الهادىء، مع هذا الطرح أقام الأطلسيون وذيولهم في العالم الدنيا ولم يقعدوها عليها وعلى الرئيس بوتين لأنهم لا يريدون أن يكون لأحد (عقيدة) أو مبادىء وثوابت وطنيّة أو إنسانيّة تناهض أطماعهم وغطرستهم، وخاصةً للقوّات المسلحة سواء في روسيا أو في سورية… وغيرها من الأقطار العربيّة التي تم استهداف قواتها المسلحة بوسائل وأساليب عديدة لتحييدها عن واجبها وعقيدتها. لأنّ العقائد والمبادىء والأفكار كانت -وستبقى- وقوداً ومحرّكاً لجذوة النضال ولحركات التحرر الوطني والاستقلال العربية والعالمية.
في هذا السياق يأتي شرف الاحتفاء وضرورته بالذكرى السابعة والسبعين لعيد الجيش العربي السوري، وهو العيد (الرسمي) المتصل فخراً وكبرياء وإنجازاً بالعيد التاريخي لهذا الجيش الذي بدأت تجربته النضالية ضد الاحتلال العثماني منذ عام 1915 فقام العثمانيون القدامى – كما يفعل اليوم من خزي وعار العثمانيون الجدد – بإعدام /32/ ضابطاً في بيروت، وفي 6 أيار عام 1916 -عيد الشهداء- أعدم العثمانيون /22/ شهيداً سورياً ولبنانياً وفلسطينياً في ساحة البرج في بيروت، وساحة المرجة بدمشق، بينهم عدد من الضباط، وها هي مسيرة التضحية والفداء لهذا الجيش مستمرة في التصدي والمواجهة لقوى الاحتلال العثماني والأمريكي والصهيوني حتى اليوم مضاف إليها قطعان الإرهاب العابر والجوّال التي تدعمها هذه القوى، ما يؤكّد أن لهذه المسيرة عقيدةً مستمرةً منذ أكثر من قرن من الزمن، وستستمرّ، لم ولن تغيب لا كمصطلح ولا كفعل.
والجيش العقائدي هو قلق وخوف من منظور أعداء الوطن لأنّه هو الذي يعزّز الدوافع الفكرية لرجاله، ويرسّخ القوى الأخلاقيّة والنفسيّة والجسديّة الكبيرة التي تحمي المجتمع والدولة والوطن والأمّة. إنّه جيشنا العربي السوري بعيديه الرسمي والتاريخي الذي أعطت ثورة الثامن من آذار 1963 معاني إضافية وكبرى لعقائديّته تعزّزت مع الحركة التصحيحيّة وتسامت وتكلّلت بالصمود والتضحيات حتى اليوم، فمع ثورة آذار تم (إعطاء التثقيف العقائدي والتوعية السياسيّة أهمية كبرى، مع التأكيد على عدم تدخّل الجيش في شؤون الحكم اليوميّة، والاهتمام بالعسكريين غير الحزبيين لتفاعلهم الطوعي والإيجابي مع الثورة والحزب)، فبقي ومازال يتردد صدى النشيد الوطني العربي السوري: حماة الديار عليكم سلام، الذي فاز بمسابقة اختياره الحكومية الشاعر خليل مردم بك عام 1938، وبقي شعاره: وطن – شرف – إخلاص الذي تترصّع به زنود الجنود جميعهم من مختلف رتبهم العسكرية، هذا الشعار الذي يتمنى أن يرفعه على زنودهم وصدورهم الوطنيون كافةً.
لقد لخّص القائد المؤسّس حافظ الأسد عقائدية هذا الجيش بقوله:
(إن جيشنا ليس جيشاً حزبيّاً، ولا حزباً سياسيّاً، وإنما هو جيش مؤمن بعقيدة حزب البعث العربي الاشتراكي)، فكان لهذه العقائديّة حضور فاعل ومشهود في منعة الشعب والمجتمع والوطن والأمة، والحزب والجيش أيضاً. وتبتعد صفحات التاريخ عن العلميّة والواقعيّة والأخلاقيّة إذ غضّت النظر عن هذه العقائديّة، وعن هذا الحضور الفاعل والبنّاء. بما في ذلك من شرف، وضرورة أيضاً.
فـ (يا رجالنا الميامين: إنكم أمل السوريين ورجاء الشرفاء والأحرار… أنتم تعبّرون بأدائكم الوطني عن أصالة جيشنا، وعراقة تاريخه، ورفعة شأنه، وكرامة شهدائه، فقد أثبتّم أن – العقيدة- الوطنيّة هي الأساس.. وعيدكم غالٍ على قلب كل مواطن حر شريف) هذه هي العقيدة الوطنيّة الأساس للصمود والانتصار التي حيّا بها جيشنا السيد الرئيس بشار الأسد القائد العام للجيش والقوات المسلحة هذا الجيش الذي يُسهم بقوة خلف قيادته في صوغ نظام دولي جديد ومنشود… فكل عام ونحن بخير ونصر شعباً وجيشاً وقائداً.