انهيار اليورو توطئة إنذار لتفكك الاتحاد الأوروبي
البعث الأسبوعية- ريا خوري
نتيجة تسارع الأحداث السياسية والاقتصادية في العالم، تراجعت قيمة اليورو بشكلٍ غير مسبوق حتى وصلت خسارته نحو ٢٠% مقابل الدولار الأمريكي، وذلك منذ شهر كانون الأول الماضي. هذا التهاوي كان مفاجئاً للعالم بهذه الطريقة المؤلمة، لجهة أنّ قيمته تراجعت اليوم إلى أقل من دولار لكل يورو واحد، و يبدو أن هذا التراجع سوف يستمر في التراجع.
لقد بقيت عملة اليورو طوال العشرين سنة الماضية أقوى من الدولار، بل من أقوى العملات في العالم، وقد حاول الأوروبيون تخفيض قيمتها لتسهيل عمليات التبادل التجاري مع دول العالم، لكنهم أخفقوا عدة مرات، فقد كانوا يعتقدون أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تقوم بتخفيض قيمة عملتها من أجل تعزيز قوتها وتنافسيتها مع دول الاتحاد الأوروبي، غير أن الواقع بيّن للعالم جميعاً أن الدولار نفسه كان قد وقع في أزمةٍ حادة منذ عام ٢٠٠٨، ولهذا انخفض الدولار أمام اليورو، وبقي منخفضاً كل تلك المدة، لكن اليوم حدث ما لا تتوقع دول الاتحاد الأوروبي حدوثه ولا تتمناه، خاصة في هذه الأيام، وهو تراجع اليورو من تلقاء نفسه، في مشهد صعب جداً ومؤلم قد يترك آثاراً سلبية على مئات الملايين من سكان دول الاتحاد الأوروبي .
لقد انبرى العديد من الاقتصاديين حول العالم للحديث عن سبب تراجع اليورو، بسبب الحرب الاقتصادية بين روسيا الاتحادية وأوروبا، والتي أدت إلى إضعاف الاقتصاد الأوروبي بشكلٍ كبير، ما أدى إلى حدوث التضخم التي يعاني منه اليورو .
ومما لا شك فيه أن الصراعات الساخنة مع روسيا الاتحادية ألحق خسائر جسيمة وغير مسبوقة باقتصاد دول أوروبا، التي بدأت بالضغط على روسيا بزعامة الولايات المتحدة في وقتٍ مبكر، حيث ازدادت تكلفة فواتير مواد الطاقة كالغاز والبترول على خلفية العقوبات الجائرة المفروضة على روسيا الاتحادية، ما أدى إلى ازدياد تكاليف المنتجات الصناعية الأوروبية، خاصة تلك التي تعتمد على الطاقة والمواد الخام الأساسية لمعلم الصناعات الأوروبية المستوردة، وهذا أدى بدوره إلى زيادة التضخم النقدي.
لهذا فقد طلبت روسيا الاتحادية كرد فعل على العقوبات الأوروبية والأمريكية، أن تدفع دول الاتحاد الأوروبي، مقابل الطاقة من غاز ونفط، بالروبل الروسي فقط أو بما يقابلها من الذهب، وهذا الإجراء أسهم في رفع قيمة الروبل الروسي في مقابل انخفاض اليورو وتراجعه إلى هذا الحد .
في حقيقة الأمر إنّ الصراع الساخن مع روسيا ليس هو السبب الأول والأساسي لأزمة اليورو، بل إن الأزمة أعمق من ذلك بكثير، وهي تعود إلى فكرة ظهور العملة الموحدة “اليورو”، وفقدان القدرة التنافسية في العالم الذي أعقب ذلك في العديد من اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي، خاصةً أن هناك دول غنية مثل ألمانيا والنمسا وهولندا، وغيرها. في المقابل، هناك دول ليس لديها قدرة على منافسة الدول الغنية، وهي دول فقيرة نسبياً، وهذه الدول تمثل أغلبية في دول القارة الأوروبية، مما شكّل عبئاً كبيراً على اقتصادات الدول الغنية.
وعلى الرغم من أنّ الاتحاد الأوروبي كان يقوم بعمليات تهيئة وتحضير للدول الراغبة في عضوية الاتحاد، من خلال الكثير من الخطوات والإرشادات حتى تبلغ الدولة المرشحة مرحلة الانضمام النهائي، لكن كان كل ذلك مجرد أفكار وآراء وتنظيرات حكومية، لم تكن تلامس الواقع بشكلٍ كبير، أي بمعنى أن تلك الخطوات والإرشادات كانت تتلقاها الحكومات وتقوم بتطبيقها بشكلٍ غير مناسب، لأن آليات الاقتصاد لم تكن قادرة على إيجاد المزيد من الإنتاج المتفوق والنوعي، بسبب قلة الموارد وأحياناً الخبرات العلمية اللازمة، بل انعدامها أحياناً، ووجود قوانين قاسية بخصوص موارد الضرائب، وقد تجلى ذلك في الأزمة الحادة التي عاشتها اليونان عام ٢٠١٠ والتي كشفت الخلل الكبير وحجم الخطورة التي تكتنف منطقة اليورو. وعلى الرغم من أن الدول الأوروبية الغنية، ولا سيما ألمانيا، تنبهت بوقتٍ متأخر، وقدمت مساعدة مالية كبيرة لمنع انهيار اليونان، لكن ذلك أظهر أن اليورو لم يحافظ على قوته وهو غير مستقر، وأن ما حدث في اليونان، هو توطئة لكارثة حتمية قد تطول كل منطقة اليورو.
ومع ظهور جائحة كوفيد ١٩ (كورونا ) والتي وصلت أقصى مدى لها في العام الماضي، فقد ظهر الإنهاك على التطور الاقتصادي في دول أوروبية كثيرة، ما اضطر الاتحاد الأوروبي إلى اقتراض أمول ضخمة من السوق الدولية، وهي عبارة عن حزمة إنقاذ مالية تبلغ قيمتها سبعمائة وخمسون مليار يورو. وقد أسهم هذا المبلغ الضخم في وقف الانهيار قليلاً، غير أنه لم يكن قادراً على تحقيق دفع عجلة الانتاج الحقيقي في الاقتصاد الأوروبي ككل، لأن غالبية الدول الأوروبية تعاني من تراكم الديون، غير غافلين عن أنّ هناك العديد من الدول التي تعاني من الإفلاس الحقيقي، لكنها تبقى مستمرة بموجب آليات الاقتصاد الأوروبي المعتادة، غير أن القدرة الاقتصادية الأساسية في الاقتصاد هي القدرة الألمانية التي تقود الدول قد وصلت إلى نهاية قدرتها على التحمل وامتصاص الصدمات الاقتصادية، وباتت مرشحة لمزيد من التهاوي والخسائر.
لقد انكشف الواقع الأوروبي على حقيقته بعد بدء الحرب الروسية – الأوكرانية وانعكاساتها الخطيرة على اقتصادات أوروبا، وتضعضع اليورو وتراجعه، خاصة أمام الدولار، فإن الاتحاد الأوروبي لم يعد اتحاداً موحداً، ولن تبقى دول الاتحاد كذلك بل سيشهد العالم خروج دول عديدة من الإتحاد، على رأسها فرنسا، بل إن الاتحاد الأوروبي نفسه قد ينتهي وتعود أوروبا دولاً متفرقة لكلٍ منها اقتصادها الخاص بها، وتعود كسابق عهدها كما كانت قبل عشرات السنين، وربما لن يطول ذلك في ظل الأزمة الحادّة التي يعانيها اقتصاد أوروبا بشكلٍ عام، ووقوع دول أوروبا بين روسيا من جهة، و المصالح الأمريكية في أوروبا من جهة ثانية.