الثروة البشرية المهدورة والمبعثرة في أنحاء العالم..كيف نستقطب المغتربين بخبراتهم وثرواتهم مجدداً ؟
البعث الأسبوعية – ريم ربيع
يعول السوريون اليوم بشكل كبير على دور المغتربين في إنعاش الاقتصاد وتحريك الأسواق والاستثمارات، إما بعودتهم وضخ أموالهم في استثمارات محلية، أو عبر ما يرسلونه من حوالات مالية تساعد أسرهم في الظروف المعيشية الحالية من جهة، وتنشط المشروعات الصغيرة والمتوسطة من جهة أخرى، فضلاً عما تؤمنه تلك الحوالات من قطع أجنبي يرفد الخزينة ويدعمها.
مكاسب ضائعة
“لولا الحوالات الخارجية لعجزت آلاف الأسر عن تأمين معيشتها” هي حقيقة باتت تتردد بشكل كبير على لسان الكثيرين ممن أنقذهم المغتربون في عائلاتهم من أسوأ مرحلة اقتصادية تشهدها البلاد، في ظل أجور متدنية وأسعار مرتفعة وتخبط حكومي غير معروف الوجهة.! حيث يقدر خبراء بأنه يصل ما بين 5-7 مليون دولار تقريباً من الحوالات بشكل يومي إلى سورية، فيما تبقى المعضلة الأساسية بوصول قسم كبير من تلك الحوالات عبر منافذ غير رسمية، في ظل الفرق في سعر الصرف بين ما حدده المصرف المركزي وسعر السوق السوداء، مما يحرم الخزينة من جزء كبير منها.
أولوية “ولاد البلد”
ويأتي التعويل على دور المغتربين ضمن مرحلة إعادة الإعمار حيث الأولوية لـ”ولاد البلد” الأكفأ والأولى بهذه المشاريع، الأمر الذي وجه التركيز بشكل كبير على تأمين بيئة ملائمة تجذب المستثمرين ومليارات المغتربين لضخها محلياً وتنشيط الدورة الاقتصادية، فيما نجحت تلك المساعي الحكومية حيناً وأخفقت أحياناً أخرى، إذ يبدو أن معظم ما صدر حتى اليوم من انطباعات على قانون الاستثمار كانت إيجابية للناحية التشريعية، وهنا أوضح رئيس هيئة الاستثمار مدين دياب أن قانون الاستثمار رقم 18 شكل نقلة نوعية لتطوير البيئة الاستثمارية وتأمين كافة أشكال الحوافز التي يرغب بها المستثمر، إضافة إلى ربط الإجراءات والأوراق الرسمية بزمن ومكان محدد.
من جهة أخرى فإن العجز الخدمي والبنى التحتية الهشة لا تزال التحدي الأكبر الذي يعاني منه المستثمر كما المواطن، وهو السبب الرئيسي في تردد الكثير من المغتربين في الانطلاق بمشاريع مجهولة المستقبل إن بقي الواقع على حاله، فيما توجه البعض الآخر لتمويل وترميم البنى التحتية في الكثير من المدن والبلدات، سواء بتمويل الطاقة الشمسية لبعض المنشآت الحيوية، أو إنارة الطرقات وحفر الآبار وإقامة مدارس ومستشفيات، إلا أن هذه المشروعات لا تزال مبادرات فردية لم تجد بعد من يحفزها ويُمأسسها بالطريقة الملائمة.
تجارب إيجابية
مؤخراً عقدت الجهات الحكومية والمجتمعات المحلية ملتقيات وفعاليات للمغتربين في مختلف المحافظات، تستعرض من خلالها المحفزات والمشاريع الاستثمارية في كل محافظة على حدة، واللافت في تلك الملتقيات حضور عدد لا بأس به من المغتربين الذين اختاروا العودة والبدء بمشاريعهم الخاصة، أو الذين حضروا بزيارة إلى سورية، ومن خلال حديثهم عن تجاربهم في الاستثمار محلياً، أشار مغتربون إلى أن عامل الأمان الذي فقد بين 2011 و2017 كان السبب بالهجرة أولاً وبقتل أي استثمار ثانياً، إلا أن عودة السيطرة الحكومية بعد 2017 على معظم الأراضي السورية وتحقيق الاستقرار فيها شجع الكثيرين على العودة والبدء بمشاريع ولو كانت خجولة في البداية، موضحين أن قانون الاستثمار في الصورة العامة مثالي، إلا أن الترويج له ضعيف جداً، حيث فوجئ العديد من المستثمرين بكم الفرص والإعفاءات المقدمة والتي لم تأخذ حقها بالترويج والإعلان.
وهنا كان رئيس اتحاد غرف الصناعة فارس الشهابي قد اقترح تأسيس منصة إلكترونية اقتصادية تعنى بشؤون المغتربين وتعرفهم بأهم المشاريع الاقتصادية التي يمكن الاستثمار بها في سورية، داعياً جميع الصناعيين في الخارج للعودة إلى وطنهم وترميم وتأهيل معاملهم عبر الاستفادة من المقومات الأساسية التي تم توفيرها للصناعيين، فيما بيّن مدير المدينة الصناعية في الشيخ نجار أن 50% من المنشآت التي عادت للعمل تعود لمستثمرين جدد، وفي ريف دمشق أشار رئيس غرفة التجارة أسامة مصطفى إلى وجود أكثر من 3000 منشأة صناعية في المحافظة، كما زاد عدد المسجلين بالغرفة عام 2021 ليصل إلى 3377 منتسباً، و617 شركة جديدة، فيما سجل هذا العام ضعف تلك الأرقام تقريباً.
مواطن “التطفيش”
ومقابل الإيجابية الواضحة التي تحدث بها المغتربون، كان لا بد من الإشارة إلى مواطن الخلل التي لا تزال عقبة أساسية وغير مشجعة على العودة، أولها البيروقراطية والروتين الكفيلين بقتل أي مشروع قبل ولادته، فعدد الأوراق الرسمية التي يحتاجها الشخص والوقت اللازم لاستصدارها وتبعثر المؤسسات المعنية بها تمثل جملة من المعيقات والصعوبات الكفيلة بـ”تطفيش” أي شخص، يضاف إليها أهم العقبات وهي الشح الكبير بعصب الاقتصاد من طاقة ومحروقات، فالتكاليف التي يتطلبها تأمين حوامل الطاقة لأي مشروع، والاضطرار للخضوع في معظم الأحيان للسوق السوداء يزيد من الأعباء ويخفض الربحية.
مستثمر في ريف دمشق اعتبر أن البيئة الاستثمارية في سورية خام ومنفتحة على آلاف المشاريع وهي نقطة جذب هامة مقارنة بغيرها، فمن يتجه اليوم للاستثمار في مصر أو الخليج أو الأردن، لم يختر تلك الدول لأن محفزاتها أكثر، بل لأن بناها التحتية مستقرة والطاقة مؤمنة، ففي حال استقرار هذا المطلب الأساسي لأي مشروع لا بد أن تكون سورية أكثر جذباً لأبنائها من بقية الدول المتخمة بالاستثمارات.
الاستقطاب مجددً!
الأستاذ في كلية الاقتصاد بحلب الدكتور حسن حزوري أكد لـ”البعث الأسبوعية” هجرة الأموال بشكل كبير، محملاً النقص بحوامل الطاقة المسؤولية الأساسية في ذلك، يليها الإجراءات النقدية الصارمة، سواء شروط الاستيراد والتصدير، أو تجفيف السيولة في الأسواق عبر القرارات الأخيرة المتخذة، وشروط السحب والإيداع في المصارف والتي لا تتلائم مع متطلبات المستثمرين.
ورداً على السؤال الأبرز حول كيفية استقطاب المغتربين مجدداً، رأى حزوري أن تحقيق ذلك يكون عبر تأمين حوامل الطاقة بالدرجة الأولى، ومن ثم إزالة النفقات والتكاليف غير الرسمية الموجودة، وإلغاء كل الإجراءات القسرية المتبعة من المصرف المركزي، كتقييد حركة النقود وشروط الاستيراد والتصدير، فحرية الاستثمار تقتضي حرية الاستيراد والتصدير، وحق المستثمر بالتمويل من أي مصدر، مشيراً إلى ضرورة إعادة النظر بالسياسة المالية والنقدية، وتأمين حرية السحب والإيداع وحركة الأموال بين المحافظات، وإلغاء المراسيم 3 و 4 لعام 2020 حول التداول بغير الليرة، مع التأكيد على أهمية وصول الحوالات بسعر الصرف الحقيقي عبر المنافذ الرسمية، فهناك قسم كبير من السوريين يعيش اليوم على الحوالات، وهي التي تدعم سعر الصرف سواء كانت نظامية أو لا، إلا أنها تتناقص بدورها نتيجة انعكاسات الحرب الأوكرانية وغلاء الأسعار في الدول الأوروبية.
فرصة للجذب
ورأى حزوري أن قانون الاستثمار مشجع جداً، لكن على أرض الواقع أين الطاقة؟ وكيف يبدأ المستثمر مشروعه وهو مقيد بسعر الصرف ومنع التداول، فضلاً عن غياب المنافسة محلياً، مشيراً إلى حرية الاستيراد في الدول المجاورة التي يرغب بها المغتربون، فيما اعتبر حزوري أن تأثيرات الحرب الأوكرانية على معظم الدول وتراجع الوضع الاقتصادي قد يكون حافزاً لعودة المغتربين للاستثمار في حال تم تأسيس البيئة الملائمة التي تم الحديث عنها.
رغم ذلك فإن الأخطر –برأي حزوري- هو الهجرة المستمرة للكفاءات، فالمغترب أو المستثمر اليوم يدرك وجود نقص بالكفاءة، والتي يعود سببها الأساسي لضعف الأجور إذ بتنا نرى الإناث يتجهن للهجرة كما الذكور وسط تجاهل حكومي لهذه القضية التي تتطلب بالدرجة الأولى تعديل الرواتب والأجور بما يلاءم متطلبات المعيشة.
تناقض حكومي
في المحصلة، فإن الجهود المبذولة لاستقطاب المغتربين وعلى جديتها إلا أنها لا تزال منقوصة من وجهة نظرهم بلا بنية تحتية ملائمة، فما يشكله المغتربون اليوم من ثروة معرفية وفكرية واقتصادية كفيلة بالنهوض بمرحلة إعادة الإعمار تحتاج اليوم تأمين ما ذكر من مطالب أساسية، لاسيما في ظل تهافت معظم الدول اليوم على الخبرات السورية بعدما أثبته المغتربون من جدارة في مختلف الميادين، فيما يظهر التناقض الحكومي في بذل الجهود الكبيرة لتأمين بيئة ملائمة لعودة المغتربين، وهي في الوقت ذاته تتجاهل الإقبال الهائل من الشباب للهجرة دون أن تحرك ساكناً تجاه هذه المشكلة.!!