خلدون قتلان: علاقة الكاتب مع شركات الإنتاج تبدأ بعقدِ إذعان
لأن الكاتبَ الدرامي من خلال النص الذي يكتبه هو اللّبِنة الأولى في صناعةِ الدراما الإبداعية، حضر الكاتب في ورشة “الدراما صناعة فكر ومسؤولية مجتمعية” التي أقيمت مؤخراً بالتعاون ما بين وزارة الإعلام ولجنة صناعة السينما، وحضرتْ أوجاعُه التي حاول تلخيصها الكاتب خلدون قتلان، مبيّناً أنّ المُنتَج الفكري المكتوب هو المادة الخام للصّناعةِ الدرامية التي تخاطبُ العقلَ الجمعي للمجتمعات، وهو خلاصةُ تجربةٍ إنسانيةٍ تحمل قيمةً يقوم الكاتب بتحويلها لقصة تلفزيونية. ورأى قتلان أنه كلما زادت القيمةُ الفكريةُ والفنيةُ للنص ازدادَ المردودُ الماديّ الذي يُشكلُّ الربحَ لشركاتِ الإنتاج التي يساهم دوران عجلةِ صناعتِها في تنشيطِ الاقتصادِ ودفعهِ نحو الأمام.
علاقةُ الكاتب مع شركات الإنتاج
لم يخفِ قتلان أن علاقة الكاتب مع شركات الإنتاج لا تقوم على الاحترامِ المتبادل، لأنها تبدأ بعقدِ إذعان بقيمةٍ ماليةٍ غير منصفة، يتنازل من خلالها الكاتبُ مجبراً عن الكثيرِ من حقوقهِ التي يتمُّ هضمُها لمصلحة رأسِ المالِ الذي يتعاملُ مع النّصّ كتعاملِ المالك مع ملكهِ، حيث تفرضُ الشّركاتُ ما تراه مناسباً لخدمةِ مصالحها المادية وعلاقاتها في ظاهرة عُرفت بمسمّى الشلليّة في الدراما، فتختارُ تلك الشركات أبطالَ العملِ بما يتناسب ومعاييرها الخاصة دون أن يكونَ لصانعِ النصّ أي فرصةٍ في ترشيح مخرجٍ استثنائي أو ممثل ٍموهوب يراه مناسباً لتجسيد شخصية وُلدتْ في خياله، ولذلك يجد المؤلفُ نفسَه -كما بيَّن قتلان- في كثيرٍ من الأحيان ملزماً بتنفيذ اقتراحِ تعديل المخرج الذي تختاره الشركة وفقاً لرأيها ومصالحها المادية، وتُحوله إلى وصيّ على النصّ يفرض رأيه على المؤلفِ ليجبره وبدعمٍ كاملٍ من الشركةِ المنتجةِ على إجراء التعديلات التي يراها ذلك المخرج مناسبة، ثم يأتي بطل العمل ليجري هو الآخر ما يراه مناسباً من التعديلات، مع إشارة قتلان إلى أن لكلّ شركةٍ ومخرجٍ ومديرِ إنتاج رؤية ومصلحة خاصة في اختيار الشخوص، وقد يحدث أن تقوم شركة ما بتهجين العمل ورفده بكوادر عربية دون أيّ مبررٍ درامي، ليكون ذلك على حساب الفنان والفني السوري، مما يؤدي إلى فقدان القيمةِ والرسالةِ التي بُنيَ عليها النص المكتوب، موضحاً أنه وبعد مرحلةِ إنتاج النّص وتحويله إلى صورة يُحرمُ الكاتبُ أيضاً من الاستفادة من نتاجه بعرضه على منصته الإلكترونية الخاصة دون الحصول على موافقة الشركة، لتكتمل دورة تهميش المؤلف الذي من المفترض أن يكون هو الشريك الأول مع الشركةِ المنتجة وفريق العمل للارتقاء بهذه الصّناعة المؤثرة، إلى جانب أن الكاتب يجدُ نفسه أحياناً مجبراً على اللجوء إلى القضاء لاستعادة نصّه الذي لم تقم الشركة بتنفيذه.
حروب ضحيتها الكاتب
وفيما يتعلق بسباقِ الشركاتِ المحموم في المواسمِ الدرامية لنيلِ شرفِ “التريند”، يجد المؤلفُ نفسَه برأي قتلان وسط حربٍ لم يخترَها بين الشركات المتنافسة لتعرضه وعمله لهجومِ الصّحافةِ الصفراء التي يدفع لها منتجٌ ما في الخفاء بهدفِ مهاجمةِ عمل شركةٍ منافسةٍ في حربٍ غير شريفة تطعن بالدراما وتُشتت مقاصدَها، مع غيابٍ كاملٍ لدور الناقدِ الفني الأكاديمي، لتتحول بعض الأقلام إلى أقلام نقاد فنييّن يوجهون سهامهم إلى عملٍ ما بقصد التشويه والتشويش على منجزٍ فني سوري يبحث عن مكانته على المحطات الفضائية، إضافة إلى حروبِ مواقعِ التواصل الاجتماعي التي يشنُّها بعضُ الفنانين ضدَّ زملائهم في المهنة، والتي يجدُ الكاتبُ نفسه معرضاً فيها لهجومٍ من فنانٍ ما يداهن شركةً أو مُخرجاً ما، مع غيابٍ كاملٍ لدورِ نقابة الفنانين في الحدّ من تلك الظاهرة التي تسيء إلى سمعةِ العائلة الدرامية السورية الواحدة التي باتت موضع انتقادٍ لاذعٍ من جمهور وصل به الأمر إلى توجيه الشتائم إلى أهل الفن على مواقع التواصل الاجتماعي والانتقاص والنفور من أي عملٍ فني مهما بلغتْ قيمته، ونتيجةً لتلك التصرفات غير المسؤولة رأى قتلان أن المؤلفَ الدراميَّ هو الحلقةُ الأضعف والمُهمّشُ الأولُ في هذه الصناعة الثقيلة التي تقوم بمجملها على نتاجه الفكري، والتي باتت بحاجةٍ ماسة إلى وضعِ ضوابط أخلاقيةٍ وتدريسِ وتكريسِ الأخلاق المهنية لتعزيز تقاليد فنية تساهم في الارتقاء بالحالة الفنية لمنتَج فكري يخاطبُ العقول ويساهم في تعزيز القيم الأخلاقية بين أبناءِ المجتمع.
علاقة متشنجة
وأوضح قتلان أن علاقة الكاتبِ الدراميّ مع المؤسسات الحكومية لا تختلفُ عن علاقته مع شركاتِ الإنتاج، فعلى الرغم من المكانةِ التي حققتها الدراما السورية في العالم العربي فقد بقيت العلاقة بين الكاتب الدرامي ومؤسّساته علاقةً متشنجةً لا تخضعُ لمنطقٍ معيّن، فالأوصياء على النّتاج الفكري كثر، والمشككون بوطنية وأخلاقِ الكاتبِ الدرامي أكثر، فتارةً تتدخلُ وزارة الأوقافِ في نتاجِ المؤلف متهمةً إياهُ بالتحريضِ على الفجور طارحةً نفسها كسلطةٍ دينيةٍ تريدُ فرضَ أفكارِها على الدراما ومصادرة أي رأي مخالفٍ لتوجهاتها، وتارةً أخرى ترسل وزارة ما بتوصياتها إلى القائمين على الشأن الدرامي توصيهم بضرورة تقديم مجتمعٍ معقمٍ ومثالي، مخالفين بذلك الوظيفة الرئيسية التي قامت عليها الدراما في نقل هموم المجتمع وتكريسِ قيمِ الخيرِ والجمال، منوهاً بأنه إذا أردنا أن نصنعَ إنساناً محمياً بالمعرفة علينا أن نرتقي بالطرح ونعتني بالمُنتج الفكري الذي يساعد أفراد المجتمع على طرح السؤال، وهنا يأتي دور وزارة الثقافة برأيه لأنها المعنية بحماية حقوق المؤلف وعلى عاتقها تقع مسؤولية وضع البرامج والخطط للنهوض بفكر الكاتب الدرامي غير المحترف، مؤكداً أن الدراما تحتاج إلى مساحةٍ من الحرية ولا تحتاج إلى ضوابط إضافية تحدُّ من قدرةِ الكاتب على التعبير الحرّ والشفاف في نقلِ قضاياه المجتمعية، مبيناً أننا اليوم نحتاج إلى أن تكون المحاذير واضحة وجليّة فيما يخصُّ لجانَ التّقييمِ الفكريّ والفني التابعة لوزارةِ الإعلام، فمن حقّ الكاتب أن يعرفَ الأسباب الموجبة للرفض أو التعديل، مشيراً إلى أن نقاطَ ضعفِ النصوص الواردة إليها غالباً ما يكون سببها لجوء الشركات إلى أشخاصٍ يدّعون صفة الكاتب، ويقوم هؤلاء ببناء نتاجهم على حصيلة المشاهدة التلفزيونية لا على أسسِ علمِ بناء السيناريو، حيث تلجأ الشركات إلى مثلِ هؤلاء من بابِ خفضِ تكاليف العمل وسهولة الإرضاء الماديّ لأشخاصٍ لا يمتّون إلى الكتابة الدرامية بِصلة، فتقدمهم ككتّاب وهم لا يملكون المعرفةَ الكافية والدّراية اللازمة لمخاطبة أممٍ ومجتمعات لتصبح الكتابة الدراميّة -وهي نتاج فكري يقوم على التجربة والمعرفة- مُنتهكة ومُتاحة للجميع، وعليه فإن جُلّ ما نحتاجه اليوم برأي قتلان وضع معايير واضحة تُحدّد من خلالها آلية التقييم الفكري والفني لتكون أكثر انفتاحاً وعلانية، فالدراما اليوم تتوجّه بنتاجها إلى جميع الشرائح، ومن الضروري وضع تصنيف واضح للأعمال، فالتقييم الفكري على نص أراد به صُنّاعه الترفيه يختلف تماماً عن نص يحمل قيمةً فكريةً ويوجه رسائلَ ثقيلة، ولا يجوز أن تقيّمَ النصوص بميزان واحد، لتستطيعَ بذلك الدراما أن تقدمَ مشكلات مجتمعها بشفافيةٍ كاملة محافظةً على التوازن في صراع الخير والشر دون أن تفرِض الحكومة على الدراما المزيد من القيود في زمن التحولات الكبرى في المنطقة العربية والعالم.
أمينة عباس