مزدحمة باللا شيء
سلوى عباس
هكذا يمرّ العمرُ وتتوالى السنوات.. العشرون ثم الثلاثون تليها الأربعون وبعدها تتربّع الخمسون على ناصية الحلم تتهادى في طريقها إلى الستين التي اكتمل قمرها وزاد عاماً، والعرافون يظنون أنهم نبشوا ضمائرنا وداروا حول نجمنا وأخبرهم أسرارنا وأنهم استنطقوا كتابنا المكنون في السماء.
في يوم ميلادي حضرت في ذاكرتي تلك الطفلة التي كانت تنام وراء الحلم جاهلة في الحياة حقيقتها المخاتلة.. استذكرت تعاليم أمي التي كانت تسربها لي عبر حكايات ما قبل النوم، بدءاً من حكاية ليلى والذئب الذي يتربّص بها، وصولاً إلى حكاية الفتاة التي سيأتي يوماً وتستبدل شرائط جدائلها الملونة بأزاهير الطفولة وعفوية لحظاتها، بشرائط ملونة بألوان الحياة المختلفة، فأغمسُ أصابعي في قلبي الراجف وأكتب عن ضراوة الوقت واعتلال أزمنتي بين يقظتي والصباح، بين أحلامي والانتظار، لا شيء يسبغ على دمي قوانين السكينة، ولا شيء يوقف انهدامات التذكر والحنين.. سيلٌ من مشاعري داهمني على حين ذكريات، شيء لا ملامح محدّدة له، ولا أعرف في القواميس له اسماً، فكم هو صعب أن تكتشف نفسك مزدحماً باللا شيء، وشخصاً مفرداً في حياة تحكمها غايات قد لا تمتلك مقوماتها، فينفضّ عنك من لا يجدون لديك ما يستفيدون منه، تحضر في خيالك وجوه غائرة في سُحبٍ رمادها يطمس الملامح، لا تدري من كثرة الوجوه أم من طول الزمن، فتنكفئ على نفسك مهزوماً في واقع مقنّع بقيم مزيفة تسعى لتغييره علك تجد فيه مكاناً لك، لترى نفسك تنظر في مرآة متشظية لا تعكس إلا روحك التي هشّمتها حياة جرجرتنا جميعاً في متاهاتها وأفقدتنا إنسانيتنا، فيأخذني حنيني إلى زمن كان الاختلاف ثقافة ثالثة يكسبها متحاوران، وكانت الصدور أوسع قليلاً، والظرف رحباً للنقاش والجدل وهزيمة الوقت، والآن أصبحت أفضّل الأقل اختلافاً والأكثر توافقاً، فلا وقت لأهزمه لأنه يتسرّب مني، ولا نور لأرى قلب جليسي، ولازال الصمت عصياً رغم ذلك. يبدو أن من مفارقات القدر أنه في النهاية يفرض علينا ما يريده ويوشم أرواحنا بوشومه، لنكتشف بعد مرور الزمن أن كلّ ما حققناه في حياتنا، وما لم نحققه، رهن أقدار محضّرة لنا، فنرى أنفسنا محاصرين بزمن يحيل التباين في الأشياء متساوياً، يساوي الحب بعدمه، والصوت بالصمت، ولون الحقيقة بالضباب، فليس جللاً أن نختلف، ولن يكون حدثاً كبيراً أن أكره تصرفاً منك ولا أكرهك، فأنا لست قديسة، وأنت لست كاهناً مجللاً بالمحبة، فهل لك أن تبقي مسافة الودّ بيننا لأن كل ما بدئ لن يؤبد، وحتى المدى يضيق ويتسع؟!.
لحظات عشتها مع نفسي كانت لي كميناً من النشوة المخادعة التي أسقطتني في أعالي الحلم، فكنت كما وردة أغلقت الظلمة جفونها طوال ليل من برودة وسكون ثم خلخلت ضياءات النهار وريقاتها بالانتعاش الذي تعيشه للحظات، ثم تعود مرة أخرى إلى سباتها علّها تقع في شرك حلم آخر يعيد انتعاشها، فأنسجُ على حافة الواقع أحلاماً أسطّرها حبراً ليمتزج الصباح بالأشياء التي أحب، وليكون فسحة الأمل المتجدّدة لروحي، صباح يتفرّد بخصوصية الكلمات المنتقاة كباقة ورد تُهدى لمن نحب، فليكن صباحي وصباحكم منطلقاً لحياة جديدة بكل خربشاتها، حيث على وقع صوت فيروز تطلّ صديقة الصباح السمراء بأجوائها الهادئة كضيف نشتاق حضوره، فتعدّل مزاجنا وتخبرنا أن البياض ليس علامة لكلّ شيء جميل، وأن الحياة مزيج ملوّن كقوس قزح الكلّ يكتمل بالآخر.