بسَام كوسا يدخل عالم الرواية بنجاح
فيصل خرتش
تقول الشخصية الرئيسية في رواية “أكثر بكثير” (بسام كوسا) “إن أمه المتهمة من قبل أبيه بأنها عاقر تمكنت من إنجاب خمسة أولاد، وكانت على استعداد لأن تنجب الكثير لولا أن النجار غادر الحارة وتزوَج”، وهذا الولد سمَاه الأب بـ “مبروك”، وقد جعلته ولادته يمشي باختيال وكبرياء أمام سكان الحارة، فالأب استطاع أن يريهم أنه ليس عاقراً، ومثلهم مثله، وكذلك زوجته أصبحت أمام نساء الحارة أمَاً تنجب الأولاد والبنات، إنها في سعادة لا توصف.. “أذكر أن أمي كانت تغمرني بذراعيها، تشمَني بنهم، كأنها كانت تستعيد رائحة النجار”.. كانت تهمس بأذني “أحبك يا ابن الحرام”.
هذا الولد الصغير يكبر ويشب، ويحب ويعشق ويصادق ويخاصم، إنه يحب الحياة، مات أبوه، وفي لحظة احتضاره يخبر ابنه بأنه يعرف كلَ شيء، ويشكر الأمَ لأنها رفعت رأسه أمام سكان الحارة، فلم يعد عقيماً بنظرهم، وماتت الأم ومات الأخوة جميعاً، ولم يبق إلاه، وهو الآن يعيش في حالة فقر مدقع، يسكن في دار تضم عدة بيوت، يسكنها بشر من النازحين وغيرهم، وقد عمل في مهن عدة، فقد عمل في مهنة طرق النحاس، كذلك جورج، دودة الكتب الذي عرَفه على ماركيز و”مئة عام من العزلة”، يريد أن يقول: إنَ السكان متحابون، يبيعون ويشترون، ويعيشون كلَ بحسب دينه وتربيته.
كان حلمه أن يحبَ فتاة، وحصل ذلك عندما كان يعمل أجيراً في الفرن، فقد رآها وابتسمت له، وحلم بها، كان يتجوَل معها في إحدى الحدائق، ثمَ رآها مرة ثانية وقد تأبطها رجل فحل أجش.
جرب كثيراً من المهن، وكان إحداها حارس بناية، وقد تعرف خلالها على رجل يسكن في الطابق الخامس، يدعى الأستاذ عدنان، وهو أستاذ جامعي، وأدخله الأستاذ إلى بيته، فقد حمل معه الأغراض التي اشتراها، اكتشف أن هذا الأستاذ يملك مكتبة ضخمة، وباعتبار أن الزوجة والأولاد هم في الدوام طلب إليه أن يستريح، وعندما عرف أنه يحب القراءة، أهداه كتاباً من تأليفه يدعى “الفراغ” وصار يحدثه عن الماضي والحاضر: “نحن أمة تلجأ إلى بهاء الماضي لكي تهرب من انحطاط الحاضر”، وراح يحدثه عن الأديان والأحزاب والقومية والطوائف والقبلية، والكل يقتل ويرفع راية الحق، ويشرح له نظرية الفراغ، فيكون تبعاً للقوَة والجبروت، فكلما تضخمت القوة ازداد البطش وأصبح الفراغ أعظم، فمنذ مئات السنين لم تزدهر أمة على وجه الأرض عبرت عن قوتها بالإبداع والشعر والفن والموسيقا والأفكار النبيلة، بل عبرت عن قوتها بالقتل والعنف وسحق أرواح البشر وسرقتهم.
“تصوَر منذ لحظة دخولي الحرم الجامعي كان لزاماً عليَ كل يوم أن أخضع لرجل أمي شرس يبعثر أوراق حقيبتي ويعبث بمحتوياتها، والذريعة حرصه على أمن وسلامة الوطن، ناهيك عما يحصل في الأروقة والقاعات والمكاتب والدهاليز وحياة الناس”، هذا الشعور بالإحباط يقود الأستاذ عادل إلى السفر إلى كندا، هذا ما أخبرته به إحدى الجارات، عندما جاء لزيارته في إحدى المرات، ولم يجده فيها، وأعطته الجارة هذه الأوراق.
مبروك ونتيجة سكنه في هذه الدار يتعرف على رجل عنده كثير من الأولاد والبنات، يعيشون في حالة فقر شديد، يعرض عليه أن يزوَجه من إحدى بناته وعندما يرفض بسبب عمره، لأنها تصغره بثلاثين سنة، يعرضها على أجير الفرن، فيقبل بها، رغم فارق السن بينهما، يتزوَجان ويحبان بعضهما، ويزورهما مبروك لأنه يعرفهما، ثم يأخذها إلى أحد الدجالين كي تحبل، تدلَه عليه العجوز جارتهم، ويبلَعها الورق المطبوع كي يطرد الشياطين من جسمها، تزرق وتصفر، وتوشك على الموت، ينقلها إلى المستشفى، لنعرف أن الوقت قد تأخر، لقد تسممت الفتاة، وماتت في المستشفى.
الرجل يترك الفرن، ويبدأ العمل في مكتب عقارات، يبيع ويشتري، ثم يصبح غنياً، ويطلق لحيته، أصبح سمساراً بيده الأمر والنهي.
كذلك يعمل مبروك عند نسَاج، وهو شخصية لطيفة يتمتع بثقافة لابأس بها، يقول: “لم يعد هناك قيمة للإنسان إلا في الكتب والشعارات، عندنا كل شيء ولا نمتلك شيئاً، لدينا كل الخصوصيات وليس لدينا أية خصوصية، إننا مزيج من التناقضات”. وعندما يترك العمل عنده، ويشعر بأنه بحاجة إلى أن يكتب، يفشل فشلاً ذريعاً، ويبرر ذلك بأنه يحتاج إلى طاولة، فيذهب إلى النساج ويشرح له حالته.. النساج يعطيه الطاولة التي يعمل عليها، فلم يعد يحتاج إليها، لأن المهنة انقرضت، والناس تفتش عن الحرير الصناعي، يأخذ الطاولة إلى البيت ويجد له كرسياً، ثمَ يجلس إلى الكتابة، ويعصر نفسه، ويحاول مرة أخرى، وأخرى، ليكتب أخيراً: “مائة عام من العزلة، وأكثر بكثير”.
شخصيات الرواية قليلة، وعددها لا يتجاوز أصبع اليد، استطاع الكاتب بسام كوسا، أن يشدنا إليها، فمنذ السطر الأول إلى نهايتها، نجد الشخصيات التي يحركها بسام إلى مصيرها المجهول. وهي شخصيات هلامية غير واضحة تماماً، نستطيع أن نقول عنها: هامشية، يحولها الروائي إلى نماذج تعيش تحت خط الفقر، مستكينة لآلامها وأوجاعها، راضية بواقعها، لا تحمل بذرة تمردها لتمضي وتجابه المستغلين، إنها تعمل في أمور بسيطة (ما عدا الأستاذ الجامعي) أجير فران، نسَاج، حارس بناية، طرق النحاس، وهذه النماذج لا تتطلع إلى المستقبل، وما يخبئه لها، إنها نماذج راضخة تعالج مشكلة الفقر والبؤس بالإدمان، أو بـأن تدفن رأسها في الرمال، لتنهض في الغد إلى عملها.
وبسام كوسا يحرَك شخصياته في حيَز ضيَق، فنجدهم يعيشون في بيوت كانت تسمَى بيوتاً، إنها شبيهة ببيوت الصفيح التي تنتشر حول العالم، والشخصية الرئيسية (مبروك) يسكن بينهم، ويتآلف معهم، إنها بيوت هلامية غير واضحة المعالم، أبو سماح، على سبيل المثال، أولاده كثر، ويعيشون في غرفة واحدة، ويعدد الروائي عدد الذين يسكنون في الدار، فنجدهم قد بلغوا العشرين نفراً يتكدسون في غرف الدار.
الزمان يحدده الروائي بزمن الحرب، فأغلب الساكنين في هذه الدار هم نازحون جاؤوا من القرى، لم يختلف الأمر عليهم كثيراً، إنّ حياتهم في القرية تشبه إلى حد كبير حياتهم في المدينة، كما يقول بسام كوسا.
بقي أن نقول: إن رواية (أكثر بكثير) هي العمل الثاني بعد مجموعته القصصية (نص لصَ) وتستحق أن تقرأ بجدارة، وبسام كوسا الممثل الموهوب يستحق أن يكون روائيا بامتياز.
بسام كوسا من مواليد حلب 1954، درس في مدارسها، ونال الشهادة الثانوية، ثمَ التحق بكلية الفنون الجميلة، وتخرج فيها ـ قسم النحت ـ عمل ممثلاَ في فرقة المسرح الجامعي التي كان يقودها المخرج الموهوب فوَاز الساجر، ثمَ المسرح القومي، وقد تميز بالأدوار التاريخية، ومنها فيلم تراب الغرباء، الذي يصوَر حياة المفكر عبد الرحمن الكواكبي، نال كثيراً من الجوائز عن أدواره في المسلسلات والأفلام.
“أكثر بكثير” رواية. الناشر: دار نينوى ـ دمشق 2022. عدد الصفحات: 140 صفحة. القطع: وسط.