السّجال الشّعري.. تنظير وتطبيق
يعرّف البعض “السّجال” بأنّه خطاب خلافي يهدف إلى دعم موقف محدّد عن طريق ادّعاءات عدوانية وتقويض الموقف المعارض، ويذهب البعض إلى أنّ استخداماته متعدّدة، كما يتمّ توظّيفه في الفلسفة والنّقد، ويتّجه هذا الفعل عمليّاً إلى الجمهور الذي من الممكن أن يكون وهمياً رغبةً في تقديم الدّعم لوضع المساجل، لكن في معجم اللغة يرد فعل (سَجَلَ به) بمعانٍ كثيرة وسنأخذ منها ما يخصّ موضوعنا، إذ يرد بمعنى رمى به من فوق، وسَجَلَ السُّورة والقصيدة قرأَها قراءةً مُتّصلةً وساجَله باراه وفاخَره وتساجَلوا: تباروا وتفاخروا، وكانت الحرب بينهما سِجالاً أي لا غالبَ ولا مغلوب، تعادل القوَّة فيما بينهما، وعليه فإنّ فعل السّجال الشّعري بدهي التّعريف، وهو ظاهرةٌ قديمةٌ عرف العرب لها أشكالاً مختلفةً منها السّجال في الموضوع، وفيه يتحدّى شاعران بعضهما بعضاً بالقول في موضوع معيّن، وهناك “السّجال بالإجازة” بمعنى أن يقول شاعر ما شطراً ثم يقول لمساجله: أجز يا فلان، فيتمّ الشّاعر الثّاني الشّطر بآخر يكمله، إضافةً إلى شكلٍ آخر وهو سجال المبارزة ويرد في مراجع المجاراة الذي يعتمد على البيت الواحد، أي أن يبدأ شاعر ما بيتاً من الشّعر ويقول نظيره بيتاً يبدأ بآخر حرف من البيت المطروح للسّجال، وظهر بعدها المجاراة تخميساً وتسبيعاً ومن ثمّ الأخوانيات، وفيها يتراسل شاعران ويتناقشان حول موضوع معيّن مع الالتزام بالوزن والقافية ذاتهما، وهنا يتحقق معنى الفعل “أسجل الكلام” الوارد في معجم لسان العرب أي أرسله.
ولعلّ الارتجال كان السّمة البارزة في السّجال الشّعري، نتحدّث هنا في العصر الجاهلي الذي كان يتمتّع فيه الشّاعر بقريحة صاحية وسليقة قوية وسرعة بديهة عالية تحضر الواحدة منها في أي وقت وأي موقف، ولعلّ الواقعة الأكثر شهرة والتي تذكرها معظم المراجع هي السّجال الذي وقع بين امرئ القيس الكندي وعلقمة بن عبدة الفحل عندما استطرد كلّ منهما في وصف فرسه وناقته ومن ثمّ احتكما إلى أمّ جندب زوجة امرئ القيس فحكمت لعلقمة، معللة ذلك بأنّ زوجها زجر الفرس وضربها بسوطه قاصدةً قوله:
فللسّاق ألهوب وللسّوط درة وللزّجر منه وقع أحرجَ مذهب
أمّا علقمة فقال:
فردّ على آثارهنّ بحاصبٍ وغيبة شؤبوب من الشدّ ملهبِ
فأدركهنّ ثانياً من عنانه يمرّ كمرّ الرّائح المتحلبِ
ووفقاً للمعنى السّابق، لا يمكن أن نعدّ الاتّفاق المسبق على السّجال بين الشّعراء سجالاً، وإن كان التّصريح بذلك موجوداً، أي أن يخبر شاعرٌ شاعراً آخر بأنّ قصيدته هذه ردّ على قصيدة له أو معارضة لها، لكنّ إن تحدّثنا عن العصور التي تلته وصولاً إلى اليوم فالأمر مختلف بكليته، فوسائل التّواصل الاجتماعي فرضت أنواعاً جديدةً من السّجال الشّعري وغيره.
ما أخذنا إلى هذا الحديث، اليوم، هو الأمسية الشّعرية التي استضافها المركز الثّقافي العربي بـ”أبو رمانة” تحت عنوان “سجالات شعرية”، وشارك فيها الشّاعرتان إيمان موصللي وترياق محمد والشّاعران أسامة حمود ومزاكم الكبع، فالعنوان الشّامل يشى بأكثر من مناظرة قصيدة بأخرى أو مناظرة ذكورية، لكن هذا النّوع من المبارزة الشّعرية -إن صحّ التّعبير- ليس من المجالات التي تخوضها الشّاعرات، ولن نظلمهنّ إن قلنا نادرات جدّاً من خضن هذه المغامرة أو يرغبن فيها، وهذا ما لا يخفى على شاعر أو متابع للحراك الشّعري السّوري تحديداً. أمّا الأمسية فقد ابتدأتها ترياق محمد العائدة بعد غياب إلى السّاحة الشّعرية بنصوصٍ تغلب عليها الذّاتية تحت عناوين مختلفة كـ”عجباً لقلبي” و”عاصفة جنون” التي نقتبس منها:
مازال هناك متّسعٌ من الوقت لتهدأ عاصفة جنوني
ما بالك تصبّ جام غضبك على انفعال مباغت
لحظة انفلات مكابحك التي لا سيطرة لي عليها
بدورها، وبُعيد قصيدتين، قالت الشّاعرة إيمان موصللي مازحةً: “سأساجل نفسي”، -ولن نخمّن أنّها تشير إلى رغبة في سجال مع شاعرة أخرى أو شاعر آخر، سنترك الأمر لأمسيات آتيات تجمع مناظرة شاعرات أيضاً-، وكعادتها قدّمت موصللي قصائد متنوعة المواضيع والأغراض الشّعرية تحت عناوين غير تقليدية نذكر منها “هو” و”كلّ شيء يعجبني” و”رصاصة الرّحمة” و”في الحبّ حكمة” و”إن لم تعشق فافعل ما شئت” و”في بلاد الآه الآه”، ومن قصيدة “في بلاد الآه الآه” نقتبس:
في بلاد الآه الآه
لم يعد هناك صوتٌ ولا شفاه
لا أحد يدقّ ناقوس العزلة
الكلّ يهشّم زجاج الحقيقة
بأكواعٍ تنزف عمرها
كذبةً كذبة..
وبالعودة إلى المناظرة الشّعرية، اعتمد الشّاعران القصيدة مقابل القصيدة لا البيت ولا الشّطر، ونوّه الكبع بأنّ “السّجال” بينه وبين حمّود لم يكن وليد هذه الأمسية بل بدأ منذ سنوات عدّة وقصائد عدة، مبيناً أنّهما خصّصا قصائد جديدة لهذه الأمسية أي أنّها تقدّم أوّل مرّة، ومبتدئاً المناظرة بقصيدة بعنوان: “تعلّق في هواها كلّ كلي”، يقول:
تعلّق في هواها كلّ كلّي وصارت في حياتي مثل ظلّي
فأخبرني صديقي أيّ شيء به شوقي أداريه وقل لي
لقد أمعنت بالحبّ اقترافا وهل من ممعن في الحبّ مثلي
ويردّ عليه حمود ناظماً:
إذا جافاك في مسراك خلٌّ فما يغنينك في شكواك قل لي
وما ضرّ المحبَّ إذا تراءى لذات قطيعة شبحُ التّخلي
أنا صبّ ومثلك جلَّ عمري ترفرف أنجم الأشواق حولي
وفي الذّكرى طقوس الحبّ تسمو تهيم الرّوح في ساح التّجلي
لتنتقل بعدها دفّة المركب إلى حمّود ويعود بنا إلى القصيد القديم، وممّا جاد نقتبس:
كلّ القضية أنّني مشتاقُ والشّوق يدرك سرّه من ذاقوا
سقم لذيذ مرهف متأصّل والوصل في شرع الهوى ترياق
ما كنت أحسب أنّ ثمّة صدفةً شغفاً تهيم بسحرها أحداق
أو أنّ قلبي من رحيق أنوثة ونسائم رقراقةٍ ينساق
لا تعجبنّ فإنْ تبسّم ثغرها ثملاً يجدد عهده الإشراق
ويردّ الكبع:
كلّ القضية أنّني مشتاق وتمكّنت من خافقي الأشواق
قلبي وعاء للمحبة والهوى مطرٌ على الكون الوسيع يراق
الحبّ أصعدني السّماء ولم يكن جبريل يصحبني وليس براق
لكنّه شغف يعاكس جاذبية أرضنا فتشدّه الآفاق
نجوى صليبه