الشخصي والسياسي و”الحتمية التراجيدية” في زيارة “بيلوسي” لتايوان
البعث الأسبوعية – أحمد حسن:
يرى بعضهم، ومنهم الصحفي المعروف توماس فريدمان، أن واشنطن تخطئ، بإقدامها على اللعب بقنبلة تايوان، “قراءة العالم”، وبالتالي فإن زيارة “نانسي بيلوسي” الاستفزازية كانت “طائشة وخطرة وغير مسؤولة على الإطلاق” وخصوصاً أنها “لن تأتي بشيء جديد، ولن تجعل تايوان أكثر أمناً أو ازدهاراً”، حسب فريدمان.
خاطئة أم حتمية؟
بيد أن التدقيق في الأمر يوضح أن الزيارة أبعد من موضوع قراءة خاطئة للعالم، لكن شخصاً يعتبر نفسه أحد “منظّري” الإمبراطورية -أو هذا ما يحاوله على الأقل- لا يراها إلا هكذا بسبب رغبته، المشروعة، في بقائها في موقعها الأحادي على قمة العالم.
والحق أن الزيارة، وإن حاولت سياسية شعبوية مثل “بيلوسي” تقديمها كفعل سياسي واعٍ وضروري “مقاتل” من أجل الديمقراطية، إلا أنها لا تبدو حين إخضاعها لفحوص مختبر التاريخ -تاريخ الإمبراطوريات على وجه الخصوص- كما روّجت “نانسي” أو كما اعتقد “فريدمان”، بقدر ما تبدو كخطوة “عادية” تقوم بها النخب الحاكمة حين تحلّ مرحلة “التراجيديا الحتمية” للإمبراطوريات في طور انحدارها التي تحدّث عنها “هنري كيسنجر” حكيم العالم الغربي، وبكلمة أخرى تبدو الزيارة كخيار وحيد، أو على الأقل أفضل السيئ، أمام إمبراطورية ترفض، أو لا تستطيع، الاعتراف بحقائق الزمن الجديد.
دور المصالح الحزبية والشخصية
ولكن، مرة جديدة، فإن “التراجيديا الحتمية” لا تكفي وحدها لتفسير الزيارة، ولا بد من الخوض في تفكيك مزيج معقد من المصالح الحزبية والشخصية وقفت وراءها ودفعت باتجاه إتمامها.
أ. الدافع الحزبي
إدارة “بايدن” ورغم تحذيراتها المتكررة لنانسي من مغبّة الزيارة إلا أنها، أي الإدارة، تعتبر “أكثر تشدّداً إزاء الصين من سابقتها”، ويحكم هذا التشدّد هوس الأمريكيين جميعاً من صعود الصين وهوس “الديمقراطيين” تحديداً بقصة نشر الديمقراطية عالمياً والدفاع عنها في كل مكان، وبالتالي اقتناع عدد كبير جداً من نخب الحزب بأن أسّ النجاح في انتخابات الكونغرس النصفية يتطلب هذا التشدّد ضد بكين، و”نانسي” هي من أهم قادة الحزب في الكونغرس كما يعرف الجميع.
ب. الدافع الشخصي
يكشف الكاتب علي عواد في مقال له في صحيفة “الأخبار” اللبنانية عن خلفية شخصية / مصلحية للزيارة تربط بين نانسي وزوجها “بول بيلوسي”، وشركة “تي إس إم سي” التايوانية، وهي أكبر وأهم شركة لصناعة أشباه الموصلات الدقيقة في العالم، وعن أسهم يمتلكها “آل بيلوسي” في الشركة عبر شركة وسيطة أخرى، اشترت نانسي 10 آلاف سهم فيها في 28 شباط الحالي، مستفيدة، بحكم موقعها النيابي من معلومات داخلية في الكونغرس -وهذا مخالف للقانون الأمريكي- عن توجّه الشركة القادم وعن قوانين أمريكية ستصدر لاحقاً لمصلحة انتقال بعض أنشطتها ومصانعها لأمريكا، وهذا مثال بيّن عن “جني الأرباح فعلاً في عالم الأسهم والبورصة بالاستفادة من المعلومات الداخلية المسرّبة”، لكنه أيضاً مدخل مهم لفهم سبب إصرار نانسي على الزيارة رغم كل التحذيرات الداخلية التي وجّهت لها.
ما سبب “ضعف” الردّ الصيني؟
يمكن، وبقدر ليس قليلاً من الثقة، القول: إن من يطالب الصين بردّ عسكري فوري ليس إلا نسخة معكوسة من “فريدمان”، أو على الأقل لا يعرف بدوره دروب ومسالك طريق الصين للزمن الجديد، فالصين لم تقل أبداً إنها ستلجأ للقوة المسلحة “لاستعادة وحدتها الترابية كخيار أوّل، لكنها ستمنع، ولو بالقوّة، أيّ تشجيع للنزعات الانفصالية فيها”، وأكثر من ذلك هذا ليس طريقها، وليست مقاربتها المفضلة للمسألة، فهي كانت وما زالت تراهن، حسب “تييجون زانغ”، أستاذ العلاقات الدولية في معهد شنغهاي العالمي، “على صعودها المستمرّ. وعندما ستصبح المجابهة العسكرية معها مرتفعة الكلفة بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ستوافق تايوان على إعادة الانضمام إليها وفقاً لشروطها، وسيتحقّق الانتصار من دون قتال”، وهذا عين ما تهدف إليه المناورات العسكرية الصينية الجديدة حول تايوان والإعلان عن إنهاء التعاون مع واشنطن حول ملفّات عدة، وإن كان ذلك يهدف أيضاً إلى إظهار الجدية في تهديد قادة بكين الشهير بأن “من يلعب بالنار سيحرق نفسه حتماً”.
مآلات المواجهة
لا تستطيع واشنطن، وهي تسير وفق الخُطا التراجيدية الحتمية للإمبراطوريات، إلا الاستمرار في محاولة احتواء صعود الصين الهائل في عالم اليوم والغد، ولما كان الفصل الاقتصادي بين بكين والعالم، وواشنطن على رأسه، صعباً للغاية بل يكاد يقارب المستحيل، نظراً لاندماج الصين في الاقتصاد العالمي، فإن واشنطن تجد في تايوان الخاصرة الرخوة أو “كعب أخيل” الصين لإشغال بكين بالعسكرة والسلاح والاضطرابات الداخلية وما إلى ذلك.
بالمقابل فإن الصين تعتبر أن ليس هناك في العالم سوى صين واحدة، وتايوان جزء لا يتجزّأ من الأراضي الإقليمية الصينية، وأن حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة التي تمثّل الصين بأكملها متسلحة بمضمون القرار رقم 2758 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1971، لذلك فهي ستحمي بحزم، كما قال وزير الخارجية وانغ يي، “سيادة الصين ووحدة وسلامة أراضيها، وستردع الولايات المتحدة بحزم عن استخدام تايوان لاحتواء الصين، وستحطم بحزم وهم السلطات التايوانية بالسعي إلى الاستقلال بالاعتماد على دعم واشنطن”، لأن حماية السيادة الوطنية للصين وسلامة أراضيها تعكس، حسب الرئيس الصيني، “الإرادة الراسخة لأكثر من 1.4 مليار صيني”، وبالتالي فإن “أولئك الذين يلعبون بالنار سيهلكون بها”.
وإذا كانت الصين “تفضّل تجنّب أزمة كبيرة، يمكن أن تتحوّل إلى صراع عسكري مكلف إن لم يكن كارثياً”، فإنها أيضاً قرّرت “بالتزام لا يتزعزع”، كما قال الرئيس الصيني، أن تلغي أحد آثار “قرن المهانة الذي بدأ مع “حرب الأفيون” البريطانية ضدّ بكين، وانتهى بوصول الشيوعيين إلى السلطة في عام 1949″، ولم يبقَ منه سوى قضية تايوان.
وبين “تراجيديا” واشنطن الحتمية والتزام صيني “لا يتزعزع” بالمضي قدماً وألعاب المصالح الشخصية لنخب واشنطن ومناورات “تايوان” العسكرية “الدفاعية”! أي سيرها، وهي مغمضة العينين، على طريق أوكرانيا، يبدو أن الساحة مفتوحة على كل الاحتمالات.. وبعضها قد يكون حتمياً أيضاً.