باكستان في الحسابات الجيوستراتيجية الصينية
ساعود ساعود
تمرّ باكستان بفترة صعبة اقتصادياً، حيث تواجه البلاد نقصاً خطيراً في النقد الأجنبي وصل لدرجة موافقة مجلس الوزراء على البيع العاجل لأصول الدولة، خاصةً وأن صندوق النقد الدولي لم يفرج بعد عن قرض بقيمة 1.17 مليار دولار، والذي طلبته باكستان منذ فترة ليست بالبعيدة. وتحاول باكستان إغلاق العجز المالي البالغ 4 مليارات دولار، وهذا يثير مخاوف تعرضها للإفلاس بعد سريلانكا، ولكن ما حصل أنّ الصين قد قدمت لإسلام أباد قرضاً بقيمة 2 مليار دولار لمدة عام واحد، وهذا ما يطرح سؤالين أولهما: لماذا تلكأ صندوق النقد الدولي حيال باكستان؟ ولماذا سارعت الصين لتقديم القرض لها؟.
من حق القائمين على صندوق النقد قبول أو رفض تقديم القروض بموجب الشروط الخاصة به، ولكن بالمقابل تحدّد الاتفاقيات المنشئة له كيفية استرداده للقروض التي يقدّمها، وهذا ما نريد التعريج عليه، حيث اشترط الصندوق على باكستان مراجعة اتفاقيات الطاقة مع الصين ضمن الممر الاقتصادي المشترك بين البلدين، وفق ما تناقلت وسائل الإعلام الباكستانية والصينية، ليكون هذا دليلاً إضافياً على توجيه الدول الكبرى المتفردة بصندوق النقد الدولي بما يساير توجهاتها ومصالحها السياسية، إلا أن هذه التصرّف أعاد الأذهان إلى تاريخ البدء بمبادرة “الحزام والطريق” الذي يعتبر الممر الصيني الباكستاني جزءاً منها.
ومن قبيل الاستعراض النظري الذي دوّنته الأدبيات السياسية، فإنّ الممر الصيني- الباكستاني جزء رئيسي في مبادرة “الحزام والطريق”، ما يثير الشكوك حول سعي هذه المؤسسة المالية الدولية لعرقلة الممر بكل مكوناته. لقد بدأ المشروع عام 2015 بتكلفة 46 مليار دولار، يمتد على مسافة 2700 كيلومتر من مدينة كاشغر غربي الصين حتى ميناء جوادر على الساحل الجنوبي الغربي لإقليم بلوشستان الباكستاني، وهذه معلومات لا مفرّ من ذكرها حرفياً، ولكن التحليل يبرز في تقدير المكاسب المستقبلية التي بنت باكستان عليها آمالها كأي دولة يمرّ منها مشروع “الحزام والطريق”، والتي يمكن حصرها بتحسين الاقتصاد، وتطوير البنية التحتية، والتوظيف، وتطوير مجال الطاقة، حيث تهدف الاتفاقية لتطويره بقيمة 33 مليار دولار تقريباً، بالإضافة إلى مشاريع لمدّ أنابيب لنقل الغاز الطبيعي والنفط بين البلدين بمشاركة إيران عبر ميناء جوادر الباكستاني الاستراتيجي الذي دخل حيّز العمل عام 2016، وإن كان الكثير من هذه الأهداف لم يتحقق بعد، إلا أنّها تبقى في حيّز الغايات الاستراتيجية بعيدة الأمد لباكستان.
بشكل أعمّ وصورة أشمل، فإنّ الأهمية الجيوسياسية التي يتميّز بها الممر الصيني- الباكستاني يستقيها وغيره من أجزاء المبادرة من القيمة الجيوستراتيجية للمبادرة ذاتها، إذ أنّها أداة للترابط ما بين الصين وآسيا الوسطى، وباكستان وأفغانستان وإيران، وصولاً إلى الخليج العربي وبعدها إلى أفريقيا وأوروبا. وإن بروز باكستان كحلقة وصل بين الصين وأفغانستان وإيران يجعلها بحكم موقعيها الجغرافي والاستراتيجي ذات وزن بالنسبة للصين، علاوة على التاريخ السياسي الذي يجمعها، فكما تذكر الأدبيات السياسية أن باكستان كانت ثالث دولة غير شيوعية تعترف بالصين عام 1950، وبالمقابل تلقت باكستان الدعم من الصين في حروبها مع الهند عامي 1965 و1971، بالإضافة إلى دعمها في بناء البرنامج النووي الذي أصبح حقيقة عام 1998، وعلاقات اقتصادية تتعدّى الممر، فقد بلغت نسبة التبادل التجاري بينهما عام 2021 ما يقرب من 27.82 مليار دولار.
والجديرُ بالذكر أن التشبيك بين الصين وباكستان عبر مبادرة “الحزام والطريق” أثار استياء الأمريكي وحلفائه، ووصل الأمر لحدّ تصريحات إعلامية على لسان المسؤولين الأمريكيين، لتقع باكستان بذلك بين فكي كماشة. وأصبح انحياز باكستان تجاه أحد المعسكرين محسوباً عليها في ظل ظرف تسوده أوضاع قاسية من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، كما أن النتائج المتوقعة من الممر البري مع الصين لم يحن وقتها بعد.
بالنتيجة، إنّ قيام الصين بمنح قرض لباكستان جاء بعد تعنّت وتردّد صندوق النقد الدولي في منحها أيّة قروض إلا بشروطه التي تمسّ بالأمن القومي للصين، ومجالات نفوذها الحيوية. وبالنسبة لصندوق النقد الدولي، فإنه كان ومازال مُسيطراً عليه سياسياً من قبل الدول الكبرى النافذة، وما يقوم به اليوم هو ذاته ما درج عليه بالأمس من قبيل سياسة ازدواج المعايير واستخدام الورقة الاقتصادية لرهن القرار السياسي، وبذلك تكون الصين قد فوّتت فرصة ثمينة لقتل طموحها الجيوسياسي في باكستان فيما يخصّ مبادرة “الحزام والطريق” عبر باكستان، وهنا يقف المراقب والمحلل السياسي أمام سؤال بغاية الأهمية مفاده: هل سيتغيّر موقف الرئيس الحالي شهباز شريف من الولايات المتحدة الأمريكية بعد إقدام الصين على خطوة تقديم القرض؟! سواء أكان القرض كبيراً أم متواضعاً، فالجواب لا، لن يتغيّر لأن الموازنة بين الأطراف الدولية على الصعيد الخارجي تفرض نفسها خصوصاً بين الصين وأمريكا، نعم أمريكا التي حرّكت الشارع الباكستاني ضد عمران خان هي ذاتها قادرة على قلب الطاولة على الرئيس الحالي، لتبقى سياسة الموازنة قائمة، ولتبقى باكستان ساحة مواجهة غير علنية بين الصيني والأمريكي.