محمود درويش قصيدة دمشقية
البعث الأسبوعية- سلوى عباس
في دمشق
ينام الغريب على ظله واقفاً
مثل مئذنة في سرير الأبد
لايحن إلى أحد أو بلد
في دمشق
يواصل الفعل المضارع أشغاله الأموية
نمشي إلى غدنا واثقين من الشمس في أمسنا
نحن والأبدية سكان هذا البلد
هكذا كان محمود درويش يحتفي بدمشق في كل زيارة لها، هو القادم من جرح الزمان إلى فيحاء العروبة، كان يحتضن لجمهوره ومحبيه في كل أمسية لقاء من شوق حميم يلتقونه فيه..كان يحتار كيف يرحب بضيوفه وكيف يبدأ أمسيته معهم، لكنه دائماً أيضاً كان لديه نشيده الخاص فيرد التحية بصوته الرخيم العذب: “كل ما أرجوه هو أن تغفروا لي اضطرابي وبكائي الداخلي،فهنا في دمشق أرى المجال الحيوي للغتي على إيقاع أبي الطيب المتنبي.. هنا أجد نفسي في نفسي.. لا قربها، ولا قبالتها، ولا خارجها.. هنا أقرأ اسم بلادي فلسطين وشماً في قلب كل سوري.. وأمانة.. هنا يعرف الشاعر أن الشعر حيٌ.. هنا يصدّق الشاعر الشعر، لا لشيء إلا لأن كل واحد منكم يعين الشاعر على القصيدة ويعين القصيدة على أن تجد في حياتها حياة أخرى.
ويتابع: من هنا.. من دمشق لا أعود تماماً إلى من كنت، فقد ازددت ونقصت، وبين هذا وذاك سأنسى قلبي عن قصد في يد فتاة دمشقية،وسأعود دائماً في انتهازية العاشق لكي أزور قلبي..”.
إنه شاعر تخضر كلماته أملاً، وقصائد من زيزفون، وغيمة عطر، قصائد تتسامى في بهائها الحالم فتسحرنا وتودعنا في فردوس جميل يسكب في قلوبنا ربيعاً اخضر، ويغرق أرواحنا بالسلام، إذ يعتمد الجملة الشعرية المكثفة في مناجاته لروحه، مجللة عبارته بغموض يحث المتلقي على سبر معانيه في محاورة للقصيدة يستوضح من خلالها مقاصد الشاعر التي لم يكشف عنها، فقدحافظ درويش في قصائده على تميز صوته الشعري بنكهته الخاصة التي يختلف فيها عن مجايليه من الأصوات الشعرية الأخرى، ببقائه ضمن بوتقة ذاته ومعاناته التي يحملها صوراً حياتية تنطبق في ملامحها وسماتها على ما يعتمل في دواخلنا من مشاعر وأحاسيس،ربما كان شاعرنا أقدر منا على إدراكها والبوح بها.
محمود درويش لم يترك حصانه وحيداً، فقد كان في كل عودة إلى دمشق يمتطي صهوة الحنين ليعانق ربة الشعر.. كان يأتي إليها فيغتني بها، ويعبّ من النشوى المعتقة التي يحبها.. كان يخلع عنه كل عناء السفر وتعب الاغتراب، يأتي ليغرف من ينابيع الحنين والشوق أجمل القصائد، فيبدو كمن يستعيد كتابته، يعيد توزيعه بعمق شوقه إلى ينابيع الدفء والمودة.
كان في كل أمسية يغزل من التماعاته هنا وهناك،ومن التفاصيل الصغيرة، أنشودة الحياة: “هتافات شعب لمن يصعدون إلى حتفهم باسمين..”.
وتأتي فلسطين وردة مضيئة في ترنيمة العاشق، وفي صوره البديعة:
على هذه الأرض/سيدة الأرض
أما البدايات/أما النهايات
كانت تسمى فلسطين/ صارت تسمى فلسطين
سيدتي/أستحق/لأنك سيدتي/أستحق الحياة
وهذا قسم العاشقين، هذه تعويذة العاشق وترنيمة من امتزجت بروحه ووجدانه كل الأرض، ملحها وترابها وهواءها وناسها:
..ونحن نحب الحياة/ إذا ما استطعنا إليها سبيلا
ونرقص بين شهيدين
نرفع مئذنة للبنفسج بينهما، أو نخيلا
ونسرق من ورق التوت خيط حرير
يسيج هذا الرحيل
ونفتح باب الحديقة
كي يخرج الياسمين إلى الطرقات نهاراً جميلا”.
محمود درويش: بين حضورك وغيابك تبقى الشاعر النبيل الذي اجتاح قلوبنا، واستقر في عقولنا بشعره وثقافته الواسعة، فمنذ وعيت الحياة وأنت تناضل بشعرك وقلمك في قضايا أمتك وحقها في الحياة الحرة الكريمة، وفي ذكرى رحيلك ستذكرك دمشق دائماً، وستظل أمسياتك الجميلة وشماً وأمانة،مثل فلسطين في قلب كل سوري، مثل دمشق في قلبك وقلوب كل العاشقين.