“أسرجتُ خيولَ الحلم”.. قصائد رفعت بدران تسير فوق الماء!
عمر محمد جمعة
سيتساءلُ أي قارئ وهو يبحرُ في ديوان الشاعر رفعت بدران “أسرجتُ خيولَ الحلمِ” الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، عن مدى قدرة الشاعر على بناء هذا التشكيل الإبداعي المدهش والآسر في الوقت نفسه، ولاسيما أن الدهشة نفسها ستعتريه حين يقرأ ديوانه السابق “ماذا لو ابتعد البعيد”، وقد يتوقف ملياً عند الأغلب الأعمّ من قصائده، وخاصة “الفناء الجميل”، و”دالية من أجل العراق”، و”قصيدة شير”، و”بقايا صور”، بما تحمله من فلسفة ذاتية، وتصميم على التجديد في شكل القصيدة ومضمونها، وارتياد مساحات جمالية وابتكار ممكنات فنية تنشئ تعالقاً قسرياً بين القصيدة والقارئ، لتبقى خالدةً ربما في ذهنيته ووجدانه، وقد حمّلها الشاعر ذوب روحه وسلافة تجربة تفارق السائد والمألوف في ما نقرأه أو نسمعه في المشهد الشعري الراهن، وسعى جاهداً فيها إلى تحقيق ذروة ثنائية معادلة التلقي في إمتاع القارئ وإقناعه بفحوى وضرورة هذه الجماليات والممكنات الفنية المدهشة الآسرة في آن معاً.
على أن حالة التخطّي التي عمد إليها الشاعر بين الديوانين، بوعي المجرّب العارف، وقدرته على التحرّر من إرث القصيدة التقليدية بإيقاعاتها وأوزانها وقوافيها، ونزوعه إلى ابتكار حداثة مفارقة لا تشبه إلا نفسها، مع الحفاظ على جمالية هذه الإيقاعات والأوزان والقوافي وتوظيفها بما يلبي رغبة الكتابة المختلفة لدى الشاعر، وتحفيز ملكة البحث الجاد عند القارئ، كانت كفيلة بالإجابة عن السؤال حول قدرة الشاعر على بناء هذا التشكيل الإبداعي، وقد تجلّى وتجوهر أكثر في ديوانه “أسرجتُ خيول الحلم”، الذي ينمّ عن ثقافة مترفة بالأصالة والتمسّك، بل الدفاع عن اللغة العربية بمعانيها العميقة ودلالاتها التي لا تُحدّ، والبرهنة أنها ما زالت المعين الثرّ الذي لا ينضبُ، إذا توفر لها شاعرٌ مبدعٌ يستطيع رغم الغيبوبة التي تعتريه في لحظات التجلي أن يقطف من شجرتها الباسقة اليانع من المفردات ويزين بلآلئها كلماته وجمله وتعبيراته النابضة بالحياة.
تسعٌ وثلاثون قصيدة، مختلفة في موضوعاتها ومضموناتها وشكلها الفني، ضمّها ديوان “أسرجتُ خيول الحلم”، كان أبرز نواظمها ثقافة الشاعر التي أفضت إلى ثقافة القصيدة، وهو ما نفتقده بحسرة في قصائدنا ودواويننا اليوم، وفي زعمنا أن ذلك يعدّ إضافة مهمّة لتجربة الشاعر واعترافاً محسوباً بأنه لا انقطاع بين الموروث الشعري العربي والحداثة والمعاصرة أنّى تعدّدت توجهاتها، وإلا كيف نفسّر لجوء الشاعر هاهنا إلى استلهام حكاية الخنساء في قصيدة “المرثية الأخيرة للخنساء”، أو شخصية امرئ القيس في قصيدة “إلى امرئ القيس”، أو صوت الفنانة أسمهان وهي تشدو برائعتها الخالدة “يا طيور” في قصيدة “أسمهان”، والنبي سليمان وهو يكلم هذه الطيور، أو سير المسيح فوق الماء في قصيدة “زائر الليل”، أو قصة الأعشى وهريرته في قصيدة “آلام الصدف”، وصولاً إلى توظيف هذا الإرث الشعري برمته في قصيدة “وعد”، التي عارض فيها الشاعر قصيدة دوقلة المنبجي “اليتيمة”.
ولعلّ الملمح الجمالي الآخر الذي يمكن الوقوف عنده هو المكان في بعض قصائد الشاعر رفعت بدران، سواء أكان واقعياً أو متخيلاً ومدى حضور هذا المكان وأثره في روح الشاعر، كما في قصيدتي “صباح دمشقي” و”السويداء”، إذ سيستحضر في الأولى مفردات المكان الدمشقي بما يحفل به من الحميمية والرخام العتيق وهديل الحمام والنوافذ والورود والصروح والذكريات. وفي الثانية دوالي العنب والمعبد الوثني وأشعار كاتولوس وخمرة باخوس ومنجيرة القصب والحكمة والأدب.
وما ينبئ بكفاءة الشاعر ومقدرته أيضاً على صياغة فنية جمالية مغايرة، هو إنشاء وابتكار صور ومتقابلات أضفت الكثير من الإبداع على القصائد برمتها، ولاسيما قوله في قصيدة “برجان عاجيان”:
أنا لسْتُ أنتَ..
ولسْتَ أنتَ أنا ولكنّا..
خُلقنا كي نعيدَ الخلقَ أجملَ.
أو في قصيدة “زائرُ الليل”:
زارني طيفُكَ ليلا
كمسيحٍ
سارَ فوقَ الماءِ..
قوسينِ وصلّى
زارني في غرفتي..
مثلَ ظلٍّ من إلهٍ
مثلَ مولى
جاء إشفاقاً على حالي..
وإشفاقاً على حالي..
ولّى..
أضف إلى ذلك الصور المركبة التي تعجّ بالتشبيهات والاستعارات والمجازات، وحفلت بها جلّ القصائد، كقوله في قصيدة “يا شعرها”:
تخيّلتُ شعرَكِ إذ يتهادى
كقطعةِ ليلٍ على الثلجِ
والمرجِ..
غضاً رشيقا
تخيّلته..
وادعاً مثلَ نسمةِ صيفٍ
ولُمحةِ طيفٍ
فلا يَكْسِفُ الشمسَ..
لا يُقلقُ الريحَ
لا يستثيرُ الرعودَ
ولا يستفزُّ البروقا..
أخيراً.. وعلى الرغم من كلّ ما وقفنا عليه من جماليات في ديوان “أسرجتُ خيول الحلم”، إلا أنّ لجوء الشاعر في غير قصيدة إلى الألفاظ المعجمية والكلمات التي قد تبدو غريبة للقارئ غير المختص، سيقود إلى وجهتين في عملية التلقي، نخشى الأولى وهي أن يُعرضَ هذا القارئ عن القصيدة التي تحمل ألفاظاً غريبة، فيما نحبّذ الثانية التي ستدفعه ربما للبحث عن معاني هذه المفردات ودلالاتها ومدى ضرورة استخدامها في ظل حداثة شعرية مفترضة، وفي هذا ارتقاءٌ بذائقة المتلقي التي غدت اليوم في مدارك لا يعلمها إلا من يجدّ ويسعى في البحث عن كتابة ترفع عن كاهلنا كلّ هذا الركام من الدواوين التي يسميها بعضهم شعراً؟.